Ad

يمكن القول بشيء من الاطمئنان إن مسيرة إثبات الذات على مستوى الإبداع النسوي عامةً، ومحاولة تغيير الصورة النمطية التقليدية الخفِرة للإنتاج الشعري النسوي على وجه الخصوص، بدأت تشهد متغيرات جديرة بالاهتمام إبّان خمسينيات وستينيات القرن العشرين.

إن الشاعرات اللواتي ولدن على مشارف عشرينيات القرن الماضي مثل فدوى طوقان (1917)، ملك عبدالعزيز (1921)، نازك الملائكة (1923)، بدت الفرصة سانحة أمامهن بصورة أفضل ليغيرن لهجة الخطاب الشعري السائد، ويشتغلن بدأب على تأسيس سمات خاصة بشعرهن النسوي.

فقد واكبت مرحلة نضجهن العمري والفني ظروف مرحلة أدبية كانت تشهد انفتاحاً لافتاً نحو الثقافات العالمية والتأثر بتياراتها الأدبية والنقدية، في الوقت الذي شهدت فيه الساحة السياسية والاجتماعية لوناً من الاستقرار والانكباب على تأسيس توجهاتها العقائدية والفكرية، فضلاً عما أُتيح لهذا الجيل من النساء من فرص التعليم الجامعي والعالي كملك عبدالعزيز ونازك الملائكة، وظروف قربهن من الأجواء والبيئات الأدبية سواء في مجال الأسرة، أو في إطار المؤسسات التعليمية والثقافية كما في حالة فدوى طوقان.

وعلى الرغم من ذلك فإنه من العسير التحدث في هذا السياق عن أي تغيرات جذرية على مستوى بنية المجتمع الثقافية والفكرية إزاء وضع المرأة عامةً، بسبب ما سبق أن ذكرناه في المقالات السابقة عن صعوبة زحزحة تلك المعايير والقيم الذكورية التي تظل رغم المتغيرات الخارجية ثابتة وحصينة.

فعلى مستوى القوانين الاجتماعية ظلت المرأة تعاني الكثير من الإجحاف والتجاهل وغلبة الأعراف الاجتماعية على الأحكام الشرعية، فضلا عن تعرضها للكثير من الاستغلال والعنف والتمييز. ولعل استعراض نوال السعداوي في كتابها "الوجه العاري للمرأة العربية" لمشكلات ختان الإناث والعنف الجنسي وقضايا الشرف والإجهاض وغيرها غيض من فيض.

ومن هنا فمسألة التجديد في المشهد الأدبي/ الشعري في ظل هذه الظروف والأعراف سوف تخضع لا محالة إلى جملة من المعوقات، خاصة إذا تعلق الأمر بالشعر النسوي. ويبدو أن الصدق مع الذات والانطلاق من العواطف الحقيقية الراسخة، كان المفتاح الأنسب لنهوض الشعر النسوي في هذه المرحلة وخلاصه من القيم الفنية البائدة وأعراف الذكورة.

وتأتي أول بادرة نسوية للتحرك منطلقةً من وعي ناضج لمفهوم "الحرية" بمستوييها الإنساني والفني، متمثلةً بأشهر وأهم حركة شعرية حديثة وهي حركة "الشعر الحرّ".

ولم يكن لنازك الملائكة فضل السبق في استحداث هذه الحركة الفنية والتنظير لها فقط، وإنما كان لها أيضاً فضل الريادة في استخدام مصطلح "الشعر الحرّ" وتبنّيه بكل ما تعنيه كلمة "الحرية" للمرأة خاصةً من انعتاق وخلاص وطيران في الآفاق. فأي قيد كان يجثم على أنفاس تلك المرأة الشاعرة حين أطلقت تلك النفثة الساطعة ونطقت بكلمة "الحرية"؟ ويقيني أنها ليست حرية الانعتاق من الأوزان الخليلية المقننة والتكرار العمودي القاهر – كما بدا ظاهرياً – بقدر ما هي طلب للانعتاق من هيمنة الخطاب الذكوري في النص الشعري وجبروته وصلفه، وكل ما يمثله من إقصاء وقهر للأنوثة وانطلاقاتها.

إن تجديدات نازك الملائكة ما كانت تجديدات في جسد النص وشكله الخارجي فقط، بقدر ما كانت إعادة هيكلة لروح النص ونسيجه ومرجعيته الثقافية. وحين يقول عبدالله الغذامي في كتابه "تأنيث القصيدة" إن "نازك الملائكة حطّمت أهم رموز الفحولة وأبرز علامات الذكورة وهو عمود الشعر"، ففعل التحطيم يخرج حينها عن إطار الفن البحت إلى أفق الأنساق الثقافية والميراث المجتمعي الذي يرى الشعر حكراً على الرجل وعلامة من علامات فحولته.

ولذلك ينبغي حين تأمل إنجاز نازك الملائكة ألا يقف المتأمل عند مسألة تفكيك الشكل العروضي واللعب بتفاعيله وإعادة هيكلته – وهذا بحد ذاته تجرؤ على فحولة العمود وصلفه -، وإنما لا بد من إدراك تطور فني آخر على مستوى المضمون والمحتوى أيضاً.

إن نصوصاً مثل "الخيط المشدود إلى شجرة السرو" و"مرّ القطار" و"الأفعوان" و"خرافات" لنازك الملائكة على سبيل التمثيل، ما كانت مجرد أجساد لقصائد حرة، وإنما كانت في مضمونها تطرح لغةً أخرى ذات وقع مختلف وغير مألوف، وتنزع نحو التصوير الغرائبي، وتمتاح من معين اللاشعور والأحلام وتراسل الخواطر والرغبات المكبوتة. وكلها أدوات فنية مستحدثة تشكلها الشاعرة من عوالمها البكر وخيالها الحر الجامح، خالقةً لها مساحة من القول غير المسبوق، منطلقةً من المناطق "المكبوتة" و"القوى الكامنة" وراء الأستار، مقارِبةً "للمُهمل" و"الغامض" و"الذات الباطنة" و"الهذيان الداخلي" على حد تعبيرها.

هذه التعابير لا شك تحمل دلالاتها النفسية والفكرية لشاعرة تتململ وتتهيأ لنزع الأغلفة، وتحسُّس لؤلؤة الذات في عريها وبياضها.