قيم التقدم

نشر في 11-03-2013
آخر تحديث 11-03-2013 | 00:01
يضع مؤلف كتاب «قيم التقدم» خلاصة تجاربه وخبراته حول القيم التي تصنع التقدم أو الوصفة العلاجية له، ويؤكد في المقدمة أن قيم التقدم (قيم إنسانية) تعلو وتتجاوز الحواجز والخلافات الحضارية والثقافية، ويطرح تساؤلين هامين: هل الديمقراطية ضرورة لنجاح قيم التقدم والتنمية؟ وهل على الشعوب غير المؤهلة للديمقراطية أن تنتظر طويلاً حتى تكون مؤهلة لها؟
 د. عبدالحميد الأنصاري هذا عنوان لكتيب صغير جليل الشأن عظيم القيمة للمفكر المصري طارق حجي، الذي كان القائد الإداري لواحدة من أكبر المؤسسات الاقتصادية في العالم لمدة عقد كامل، وكان الرئيس الأعلى لآلاف الخبرات العالمية من مختلف الجنسيات.

في هذا الكتاب يضع المؤلف خلاصة تجاربه وخبراته وقدمها للقارئ العربي، حول القيم التي تصنع التقدم أو الوصفة العلاجية للتقدم، ويؤكد المؤلف في المقدمة أن قيم التقدم (قيم إنسانية) تعلو وتتجاوز الحواجز والخلافات الحضارية والثقافية، ويطرح تساؤلين هامين:

1- هل الديمقراطية ضرورة لنجاح قيم التقدم والتنمية أم أن هذه القيم قادرة حتى في بيئات متواضعة ديمقراطياً في أن تخلق مناخاً يعظم الهامش الديمقراطي؟

2- هل على الشعوب غير المؤهلة للديمقراطية أن تنتظر طويلاً حتى تكون مؤهلة للديمقراطية؟

يجيب المؤلف عن التساؤلين بعد دراسة تجارب 10 دول في جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية، كانت منذ 20 سنة، بدون ديمقراطية، وبدون طفرة اقتصادية، وبدون قيم التقدم، ثم أصبحت غنية "نسبياً" بالعناصر الثلاثة، ليقول: إن البشرية كما عرفت تجارب كانت فيها الديمقراطية هي الإطار العام وحققت نهضة شاملة كما رسخت قيم التقدم، فإن هناك تجارب أخرى لدول، يسميها دول الطفرات، حققت إنجازات اقتصادية سريعة، كان النهج فيها مختلفاً عن نهج الدول الديمقراطية العريقة، بمعنى أن هذه الدول لم تنتظر طويلاً الديمقراطية بل حققت إنجازاتها عبر طفرات تنموية سريعة لا عبر التطور البطيء كما حدث في أوروبا.

يستخلص المؤلف من تجارب دول الطفرات دروساً لمجتمعاتنا، موضحاً أن هذه الدول قامت فيها قاطرتان: الأولى تمثلت بكادر من القيادات التنفيذية، جسدت قيم التقدم وفرضتها فرضاً على المجتمع، والثانية تمثلت بإصلاح جذري للنظام التعليمي المتبني لقيم التقدم، بحيث خدمت القاطرة الأولى المدى القصير والمتوسط بينما خدمت القاطرة الثانية المدى المتوسط والطويل، وهكذا من خلال عمل القاطرتين، إضافة إلى القيادة والقدوة والتعليم الخلاق، انتشرت قيم التقدم وخلقت مناخاً عاماً سمح بالحراك الاجتماعي الفعال والمثمر، وخلق طبقة وسطى ذات ركائز ثقافية واقتصادية وواكب كل ذلك "إصرار حتمي" على توسعة الهامش الديمقراطي.

 وعلى ذلك فليس على مجتمعاتنا أن تنتظر طويلاً حتى تكون مؤهلة للديمقراطية والتقدم، لأنها تستطيع اختزال المراحل الزمنية بالإفادة من هذه التجارب والوصول إلى صيغ ديمقراطية تحقق التنمية الشاملة، والآن: ما قيم التقدم؟

1- احترام الوقت: يكتسب الوقت أهميته من أنه الإطار العام الذي من خلاله تتم الخطط وتنفذ المشروعات وتتحول إلى واقع، فالوقت في الدول المتقدمة هو إطار كل شيء، واحترام قيمة الوقت لدرجة التقديس، يعد العلاقة الفارقة بين المتقدمين والمتأخرين، ولم يكتسب الوقت هذه الأهمية إلا بعد الثورة الصناعية ليتعاظم وصولاً إلى مواعيد القطارات السوسرية التي ليست بالساعة أو الدقيقة بل بالثانية!

كما أن احترام الوقت ليس مجرد صفة للبعض وليس طبعاً لشعب من الشعوب، فالناس لا يولدون يحترمون الوقت، لكنه يغرس غرساً عبر التزام القيادات المجتمعية العليا بالقدوة، فإذا لم يكن القائد الإدارة يحترم الوقت فقل على المجتمع السلام، ولكن مما يؤسف له في مجتمعاتنا أن يصبح التأخر رمزاً لعلو مكانة الشخص الذي من حقه أن يتأخر لأنه مشغول بمسؤوليات كبرى وعلى الآخرين انتظاره! إن التقدم مسألة لا تحققها الأموال ولا الثروات الطبيعية، إنما منظومة القيم السائدة وأهمها (تقديس الوقت).

2- ثقافة النظم لا ثقافة الأشخاص: ما زال العقد العربي محكوماً بدور "الفرد" بأكثر من فاعلية "النظام"، فنحن أبناء ثقافة الأشخاص وتقديسهم لا ثقافة النظم والتي هي المنتج الأول للنجاح والتقدم، وما زالت مجتمعاتنا تربط بين كفاءة الإنجاز ومصادفة وجود شخص ممتاز في موقع معين.

 ومعنى ذلك أن مجتمعاتنا تراهن في أمور حياتها وفي مستقبلها على قوانين المصادفة، فلو ذهب هذا الشخص الممتاز أو مات، لانهارت الأمور، وهذا يتناقض مع علوم الإدارة الحديثة التي تؤمن بالقدرات الفردية لكنها تؤمن بشكل أكبر بالنظم لا الأشخاص، ثقافة النظم هي التي قادت الدول المزدهرة إلى التقدم، ولكن هل يمكن لمجتمعات ثقافة الأشخاص أن تتحول تدريجياً لثقافة النظام؟

نعم ذلك ممكن، وقد حدث في حالات عديدة بشرط تفعيل آليتين: آلية القدوة العليا في المجتمع التي تفرض ثقافة النظام وتلتزم بها، وآلية التعليم المتطور الذي يتبنى قيم التقدم.

 3- نشر ثقافة الإتقان: أصبح الإتقان لدى المتقدمين، علماً تدرسه المعاهد باسم "علم إدارة الجودة" ويشمل: الجودة في مرحلة التخطيط ثم الجودة في مرحلة التنفيذ ثم المراجعة بعين الجودة والإتقان، لكن "ثقافة الإتقان" ما هي إلا إفراز أو انعكاس لحقيقة كبرى وهي وجود "حراك اجتماعي" فعّال في المجتمع، لأن الإتقان ملمح من ملامح المتميزين.

 فالمتميزون هم الذين يفرزون ثقافة الإتقان ويشيعونها في المجتمع، فإذا لم يكن المجتمع يسمح بحراك اجتماعي يبرز المتميزين من أبنائه وبناته فإن ثقافة الإتقان لا توجد، والحراك الاجتماعي الحر هو الشرط الضروري لبروز أصحاب القدرات العليا ليشغلوا المواقع القيادية في المجتمع، وعلى ذلك فإن المجتمعات التي لا تسمح تركيبتها بالحراك الاجتماعي الحر، فإنها تفتح المجال على مصراعيه لغير المتميزين وغير الموهوبين (من أصحاب القامات المتوسطة) لكي يحتلوا المواقع القيادية، مما يوجه ضربة قاضية لثقافة الإتقان ويشيع مناخاً ثقافياً يسميه المؤلف "ثقافة القامات المتوسطة"، كما أن الإتقان ليس مرتبطاً بالتقدم التكنولوجي، إنما هو فكرة في رؤوس المتميزين.

4- غرس قيمة التعددية: التعددية هي أحد منابع الديمقراطية، وتعني: احترام المشارب والمذاهب والثقافات والأذواق والآراء وأساليب الحياة للجميع مع عدم السماح لأي منها مهما بلغت أغلبيته من استئصال حق الآخرين في الاختلاف، لقد أصبحت التعددية معلماً إنسانياً ومصدراً لثرائها ومنبعاً للإبداع والابتكار والتجديد والتجويد.

5- قبول نقد الذات: النقد، طبقاً لكانت، أهم أداة بناء طورها العقل الإنساني، وعندنا في التراث، رحم الله تعالى من أهدى إلينا عيوبنا، مقولة عمر رضي الله تعالى عنه، إن الجو الثقافي العام الذي يحفل بالعقل الناقد هو الجو الذي يسمح بالتطور والازدهار، لكن هدف النقد المثمر ينبغي أن يكون البحث عن السلبيات، لتقليلها، ورصد الإيجابيات، لتعظيمها، وهذا يحتاج إلى مناخ يعلم أبناءنا كيفية النقد الموضوعي الهادف للتجويد المستمر، وهو يختلف عن النقد الشخصي الجارح الذي يهدف إلى تصفية الحسابات الشخصية، ولذلك فإن البيئات الثقافية التي تعتمد التعددية وثقافة النظم لا الأشخاص، هي التي تفرز عمليات النقد الموضوعية البناءة، أما مجتمعات "الرأي الواحد" فإنها تفتقر إلى روح النقد البناءة وتنتشر فيها عمليات النقد الهجومي الجارح.

6- الإيمان بعالمية المعرفة: متمثلة بعلوم الإدارة الحديثة وعلوم الموارد البشرية وعلوم التسويق والكثير من الأفكار الاقتصادية التي عبرت الحدود وحققت إنجازات مذهلة للدول التي تبنتها.

7- قيم التقدم الإداري: وهي مجموعة من القيم تشكل ركائز العمل الحديث وتشمل: أ- عمل الفريق: والذي يعد من أهم مهام المدير العصري. ب- الاهتمام الفائق بالموارد البشرية: إذ تقوم علوم الإدارة على الإيمان بأن كل إنسان في العالم توجد مسافة بين أدائه وقدراته، وإن من أهم مهام الإدارة اكتشاف تلك المسافة. جـ- التفويض. د- جلوس علم التسويق على مقعد القيادة. هـ- الإيمان المطلق بفاعلية الإدارة، وبعد: فلا يتسع المجال للمزيد وللقارئ أن يرجع إلى هذا الكتيب الهام الصادر من دار المعارف بمصر 2001 ضمن سلسلة "اقرأ"، إنه كتيب صغير لكنه يضيء العقل ويرفع الوعي ويثري المعرفة.

* كاتب وباحث قطري

 

back to top