قبرص واللحن الحزين

نشر في 01-04-2013
آخر تحديث 01-04-2013 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت تستطيع أوروبا أن تختار اللحن المصاحب لها إلى أزمتها الأخيرة، ففي برلين، عُرِض للتو فيلم فيفتي سنت "كل شيء ينهار"، ولعل الموسيقى التصويرية لهذا الفيلم تكون مناسبة، أو ربما تلجأ القارة إلى جوزيبي فيردي الذي ولِد قبل مئتي عام والذي كان عمله قبل الأخير، وربما عمله الأعظم على الإطلاق، أوبرا تبدأ على ساحل قبرص بعاصفة شديدة العنف، وكانت العبارة الافتتاحية لبطلها عطيل: "ابتهجوا وافرحوا. لقد انتصرنا في الحرب"؛ ولكن عطيل دمر إنجازه هذا بسبب غيرته في وقت لاحق.

واليوم، يبدو أن قبرص قد أنقِذَت، ولكن عملية الإنقاذ كانت سبباً في تغذية انقسام متزايد يعرض مستقبل التكامل الأوروبي للخطر، ويرجع هذا جزئياً إلى الطريقة التي تمت بها إعادة تمثيل الاضطرابات العنيفة التي شهدتها بدايات القرن العشرين- وخاصة أزمة الكساد الأعظم- في المناقشات التي دارت حول الانهيار المالي بعد عام 2008 وأزمة اليورو اللاحقة.

كان الركود الاقتصادي في فترة ما بين الحربين مستعصياً لأنه كان مصحوباً أيضاً بأزمة ضربت الاستقرار الاجتماعي، والديمقراطية، والنظام السياسي الدولي. وكان انتشار الإفلاس وارتفاع معدلات البطالة من الأسباب التي أدت إلى تفاقم التوترات الاجتماعية، الأمر الذي جعل انتهاج السياسة الديمقراطية الطبيعية أمراً مستحيلا. وفي ألمانيا، مركز زلزال انهيار الديمقراطية، ثارت ثائرة المتطرفين على اليمن واليسار ضد التسوية السلمية بعد الحرب العالمية الأولى ومعاهدة فرساي.

في السنوات الأخيرة غير المستقرة من عمر جمهورية فايمار، ومع انضواء الديمقراطية، بدأت الحكومات الألمانية تستغل تطرف خصومها في محاولة لانتزاع تنازلات أمنية من القوى الغربية. وأصبحت الضغوط السياسية الداخلية مصدراً للتوتر الدولي المتصاعد.

وهذه هي حال أوروبا اليوم أيضا، فقد أصبحت الديمقراطية هدفاً أساسياً للشكاوى من قِبَل النخبة الأوروبية، فقد أعرب جان كلود يونكر رئيس وزراء لوكسمبورغ، والرئيس الأسبق للمجموعة الأوروبية، عن امتعاضه زاعماً أن زعماء أوروبا يعرفون ما هي السياسات الصحيحة التي يتعين عليهم اتباعها ولكنهم لا يعرفون كيف يُعاد انتخابهم بعد تنفيذها. وعلى نحو مماثل، شرح رئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي بنبرة حزينة بعد هزيمته الساحقة في الانتخابات الأخيرة أن الناخبين الإيطاليين كانوا أقل صبراً من أن يتحملوا الإصلاحات التي ما كانت فوائدها لتتضح إلا بعد الدورة الانتخابية.

كما كشفت الأحداث في قبرص عن بعدين آخرين للخصومات حول أزمة الديون السيادية والأزمة المصرفية في أوروبا، فأولا، تعمل المناقشة الدائرة حول فرض ضريبة على الودائع المصرفية، وما إذا كان من الواجب إعفاء صغار العملاء، على الدفع بالصراع الطبقي إلى الصدارة. وثانيا، كانت مسألة المودعين الأجانب، وخاصة الروس- إلى جانب القرب من سورية- سبباً في تحويل قضية إنقاذ القطاع المصرفي القبرصي إلى مشكلة علاقات دولية.

ولم يأت الاقتراح الأولي بفرض ضريبة لمرة واحدة على الحسابات التي تحتوي على أقل من مئة ألف يورو من الاتحاد الأوروبي أو ألمانيا، بل من الحكومة القبرصية، التي لابد أن تكون على علم بأن هذا الاقتراح من المرجح أن يولد قدراً كبيراً من الغضب، وأن البرلمان القبرصي لن يصوت أبداً لصالحه. وربما تصورت الحكومة أن الاحتجاجات الحاشدة- مع لافتات تندد بالاتحاد الأوروبي باعتباره ورقة التوت التي تحجب الهيمنة الألمانية المتجددة على أوروبا- قد تعمل على تعزيز قبضتها على السلطة. ولكن حتى القبارصة من المعتدلين أعربوا عن غضبهم الشديد إزاء استئساد ألمانيا وأوروبا على جزيرتهم الصغيرة.

كما لعب الجانب الآخر من المفاوضات على وتر السياسة الطبقية. ففي واحدة من أكثر اللحظات توترا، وفيما كانت قبرص تسعى إلى الحصول على حزم إنقاذ بديلة من روسيا، أعلى البنك المركزي الألماني نتائج دراسة جديدة أجراها البنك المركزي الأوروبي وتشير إلى أن متوسط الثروة الألمانية أقل مما هو عليه في دول أوروبا الجنوبية، وأن هذا يرجع في الأساس إلى أن عدداً أقل من الألمان يمتلكون مساكنهم. وبدا من الواضح أن المقصود من هذه الرسالة التأثير في المفاوضات: فكيف نتوقع من الألمان الأكثر فقراً التضحية لدعم مليونيرات البحر الأبيض المتوسط؟

في أعقاب الأزمة المالية، انتقلت قضية توزيع الدخول والثروات إلى مركز المناقشة السياسية، وحتى الكنيسة الكاثوليكية تبدو وكأنها تعكس هذا المزاج الجديد: فكان انتخاب خورخي ماريو بيرجوجليو ليصبح البابا فرانسيس إشارة واضحة إلى القديس فرانسيس الأسيزي ورسالة الكنيسة في الدفاع عن الفقراء.

وعلى جبهة العلاقات الدولية، فبعد عام 2010، ومع رحيل الودائع الأوروبية عن البنوك القبرصية، زادت الودائع من الشركات الروسية والأفراد، وروسيا لديها العديد من الأسباب لاستخدام المال كوسيلة لشراء السيطرة السياسية. فقبرص تُعَد نقطة انطلاق بالغة الأهمية للعمليات الأمنية الأميركية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، ومن الممكن تنمية حقول الغاز قبالة سواحل قبرص بحيث تعمل كمصدر للطاقة كفيل بالحد من اعتماد أوروبا على الإمدادات الروسية، على الأقل بعد عام 2017.

في مرحلة مبكرة من الأزمة، منحت روسيا قبرص اعتماداً ائتمانياً بقيمة 3 مليارات دولار، ولكن أي ائتمان جديد الآن لن يسفر إلا عن جعل الدين الحكومي غير مستدام؛ والمطلوب الآن هو شراء كل أو بعض البنوك القبرصية المتعثرة. ففي أعقاب الأزمة التي تصاعدت بسبب خطاب الصراع الطبقي، قد تكون روسيا قادرة على بسط سيطرتها بشكل أعظم تأثيراً وبثمن أقل كثيرا.

إن تعميق الاستقطاب الاجتماعي، واستخدامه في المفاوضات المالية، وإقحام عنصر أمني جديد، كل هذا يقدم دليلاً إضافياً على ما حاول أغلب خبراء الاقتصاد والمعلقين على أوروبا إثباته لفترة طويلة: وهو أن دعم الاتحاد النقدي أمر مستحيل في غياب الاتحاد السياسي. إن أي دولة، وخاصة تلك التي تتخذ الهيئة الحديثة لدولة الرفاهة الأوروبية، تعتمد على آليات فعّالة للتحكيم وتسوية النزاعات الاجتماعية- وهو الآليات التي يفتقر إليها الاتحاد الأوروبي كما أثبت اللغط المحيط بقبرص. وما دام هذا الوضع قائماً فقد يكون مصير التكامل الأوروبي إلى زوال بمجرد توقف الموسيقى.

* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون، وأستاذ التاريخ في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، ومؤلف كتاب "صنع الاتحاد النقدي الأوروبي" مؤخرا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top