الشك الديكارتي المتطرف يمكن أن يكون تمريناً مفيداً، لذلك، وبعد أسبوع غير عادي بدا أن كثيراً من الاتجاهات العالمية المستقرة منذ فترة طويلة أخذت بالتحول، ما الأمر الذي يمكن أن نكون على يقين منه؟

Ad

ما الأمر الذي لا نستطيع أن نتشكك فيه؟ كان هذا سؤالاً طرحه الفيلسوف العظيم رينيه ديكارت، الذي تمكن من إلقاء كل شيء في بوتقة الشك قبل إعادة بناء اليقين استناداً إلى الأساس المشهور: "أنا أشك، إذن أنا موجود".

الشك الديكارتي المتطرف يمكن أن يكون تمريناً مفيداً. لذلك، وبعد أسبوع غير عادي بدا فيه أن كثيراً من الاتجاهات العالمية المستقرة منذ فترة طويلة أخذت بالتحول، ما هو الأمر الذي يمكن أن نكون على يقين منه؟

أولاً، بدأت رحلة التراجع الطويل عن السياسة النقدية السهلة في الولايات المتحدة. صحيح أن الاحتياطي الفدرالي لا يزال يشتري السندات بمعدل 85 مليار دولار شهرياً، ولم يلتزم بجدول زمني لإنهاء هذه المشتريات. لكننا نعلم الآن – بعد أن أعلن رئيس الاحتياطي الفدرالي، بن برنانكي، عن نيته البدء في انسحاب تدريجي "في وقت متأخر من هذا العام" وإنهائه تماماً بحلول منتصف العام المقبل - أن الاحتياطي الفدرالي يريد أن ترتفع العوائد على السندات. وبالفعل ارتفعت العوائد على السندات لأجل عشر سنوات أكثر من نقطة مئوية منذ المعدل المتدني في يوليو الماضي، لتصل إلى 2.5 في المئة، وهذا نوع من التشدد في السياسة النقدية.

ومن غير الواضح ما إذا كان الاحتياطي الفدرالي يعتقد فعلاً أن الاقتصاد الأميركي قوي، أو أنه يخشى إمكانية أن تكون أسعار الأصول قريبة من الفقاعة، لكن ليس هناك شك في أنه سيحول اتجاهه.

ثانياً، نستطيع أن نؤمن بالقوة الكامنة الهائلة في البنوك المركزية. فقد قام الاحتياطي الفدرالي بهندسة هذا التشدد، وأزال الهواء من أسواق الأصول في مختلف أنحاء العالم، فقط بمجرد استخدام موقعه للتأثير في الأحداث، والواقع أنه مستمر في شراء السندات بمعدل سريع.

في هذه الأثناء أوجد البنك المركزي الأوروبي فترة هدوء في أزمة منطقة اليورو من خلال وعده بأن "يفعل كل ما يلزم" - دون أن يفعل شيئاً حتى الآن.

ثالثاً، وعلى علاقة بهذين الأمرين، يكاد يكون من المستحيل الشك في أن سوق السندات الصاعدة منذ ثلاثة عقود وصلت نهايتها. فقد كانت العوائد ترتفع منذ سنة. ولم يؤد طوفان الأموال من الأسواق الناشئة، كما حدث في حالات الهلع السابقة في الأسواق الناشئة، إلى دخول الأموال في سندات الخزانة. كما أن المشتري الكبير الآخر لسندات الخزانة الأميركية، وهو الصين، يمر في تباطؤ، ولا يقوم بتكويم الاحتياطي (وبالتالي شراء سندات الخزانة) على نحو ما كان يفعل. والعوائد على السندات في ارتفاع، والأسعار في تراجع.

رابعاً، عاد التقلب، وسيكون رفيقنا فترة من الزمن. فهو مضمون بصورة أو بأخرى من قبل البنوك المركزية. فبرنامج الانسحاب التدريجي من الاحتياطي الفدرالي سيكون مسترشداً بالبيانات الاقتصادية، وهذا يعني أنه مع كل ظهور للبيانات يمكن أن نتوقع أنها ستؤدي إلى اندفاعة فورية في اتجاه أو آخر.

خامساً، النظام المالي الصيني واقع تحت الإجهاد. فقد شهدنا في الأسبوع الماضي ارتفاعات مذهلة في أسعار الفائدة التي تقرض بها المصارف بعضها بعضاً – وهي علامة سيدركها تماماً المخضرمون الذين عايشوا أزمة الائتمان في الولايات المتحدة عام 2007.

وإذا حكمنا بالأقوال الرسمية (قالت صحيفة تديرها الدولة: "لا نستطيع استخدام التوريد السريع للأموال كما في الماضي، من أجل تشجيع النمو الاقتصادي") وبالأفعال الرسمية (إثارة الذعر لدى المصرفيين قبل تدخلٍ حكومي أدى إلى أن تكون أسعار فوائد الإقراض أعلى في ذلك الحين مما كانت قبل الأسبوع الماضي)، فإن الصين تشدد قبضتها على الإفراط في الائتمان.

فما الذي نستطيع أن نشك فيه؟ أهم شيء هو أننا نستطيع الشك في أن الاحتياطي الفدرالي سيتمسك بجدوله الزمني. وأول بيان على ذلك هو معدل البطالة في الولايات المتحدة. ويعتقد البنك أن هذا أمر تمت السيطرة عليه الآن، وينطوي جدوله ضمناً على أن معدل البطالة سيتراجع من مستواه الحالي البالغ 7.7 في المئة إلى 6.5 في المئة بحلول الصيف المقبل. ومن الممكن أن نشك في ذلك.

والسبب الثاني للشك هو التضخم. فمن المشهور عن برنانكي أنه يخشى الانكماش الاقتصادي (أي التراجع المباشر في مستويات الأسعار)، وحالات التراجع السابقة في التضخم أثارت حالات من التوسع في مشتريات السندات بموجب برنامج التسهيل الكمي. وفي الوقت الحاضر هناك تراجع في التوقعات التضخمية، ويقترب معدل التضخم الأساسي من 1 في المئة (الرقم المستهدف 2 في المئة) وأسعار السلع في تراجع تحت تأثير الصين. وهذا يبدو وكأنه صدمة انكماشية كامنة.

وإذا وقعت هذه الصدمة، وتراجع التضخم في الولايات المتحدة إلى ما دون 1 في المئة، فلن يحدث الانسحاب التدريجي حسب الجدول المقرر.

ونستطيع كذلك الشك في انتهاء عمليات البيع بأسعار رخيصة، خصوصاً في أسواق الأسهم التي تكون في العادة آخر من يتصرف أمام الأنباء السيئة. فقد تراجع مؤشر فاينانشيال تايمز للأسهم العالمية بنسبة 4.5 في المئة في أول يوم تداول كامل بعد حديث برنانكي، لكنه لا يزال أعلى بنسبة 3.8 في المئة من مستوى العام، وأعلى بنسبة 15.7 في المئة على مدى الشهور الـ12 الماضية. وهناك احتمال كبير في حدوث مزيد من الخسائر في الأسهم.

ماذا عن قرارات تخصيص الأصول؟ حين ننظر بصورة إجمالية إلى الاحتمالات، فإن هذه البيئة تفضل الأسهم على السندات. وإذا تحسن الاقتصاد - وهو ما يبدو أن الاحتياطي الفدرالي يتوقعه - عندها ستحقق الأسهم مكاسب نسبية، على الرغم من أسعار الفائدة العالية.

وإذا لم يتحسن الاقتصاد، فسيكون هناك المزيد من العسل من الاحتياطي الفدرالي، على شكل مشتريات سندات - ويغلب على هذا أن يساعد أسعار الأسهم أكثر من أن يساعد أسعار السندات. لكن يمكن أن نشك في هذا الحكم. وإذا وقعت صدمة انكماشية حقيقية من الصين، فإن هذا سيكون أمراً سيئاً للأسهم، ويمكن أن يدفع بالأموال إلى الملاذات الآمنة من جديد.

كذلك لاحظ أن هذه أحكام نسبية، فالأسهم تعتبر رهاناً جيداً في التفوق على السندات، لكن من السهل تماماً أن نشك في أنها سترتفع بالمعدلات المطلقة على مدى الأشهر القليلة المقبلة. ولو كان ديكارت يستثمر الآن، فإنه سيبقي خياراته مفتوحة ومحفظته متنوعة.

(فايننشيال تايمز)