-1-

Ad

من ضمن الخطاب السياسي الُمبهم، المُضمر منه والُمعلن للفصائل الدينية "الإسلاموية" المسلحة، الدعوة إلى إقامة الخلافة الإسلامية التي ألغاها كمال أتاتورك عام 1924. ونجد هذه الدعوة مُعلنة في خطاب "حزب التحرير الإسلامي" كما نجدها في خطاب "القاعدة" وأنصارها، وخطاب بعض السلفيين في تونس ومصر الآن. وكانت مُعلنة في خطاب "الإخوان المسلمين" في الثلاثينيات، وهم الذين دعموا دعوة تخليف الملك فؤاد الأول في مصر، والتي أسقطها كتاب علي عبدالرازق الشهير (الإسلام وأصول الحكم، 1925م).

-2-

والخلافة الإسلامية، هي أيضاً من بين أهداف فصائل دينية فلسطينية مسلحة كـ"حماس"، و"الجهاد الإسلامي"، وغيرهما، فهي سبب "الجهاد المقدس" في فلسطين، وعلى المدى البعيد. وكانت هي سبب "الجهاد المقدس" في العراق من قبل السُنَّة والشيعة على السواء. وهي سبب التفجيرات الإرهابية التي جرت في السعودية، وفي المغرب، وربما ستجري في أنحاء أخرى من العالم العربي مستقبلاً.

فهل زالت الخلافة الإسلامية فعلاً، لكي تطالب بإعادتها هذه الفصائل الدينية المسلحة من شتى الأطياف الدينية، وفي بلدان العالم العربي المختلفة؟!

 -3-

عندما ألغى كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية عام 1924، وطرد آخر خليفة عثماني (عبدالمجيد بن عبدالعزيز) من تركيا، الذي انتقل إلى العيش على الشواطئ اللازوردية في نيس وكان، في الجنوب الفرنسي، كان أتاتورك بذلك قد ألغى رسمياً الخلافة الإسلامية في تركيا فقط، ولم يُلغها فعلياً في بقية أنحاء العالم الإسلامي. فظلت الخلافة الإسلامية قائمة بعد عام 1924 في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي، خصوصاً في مصر (الملك فؤاد الأول 1868- 1936م) أكبر بلدان العالم الإسلامي خارج الدولة العثمانية. وما الدعوة إلى تنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين في مصر إلا تحصيل حاصل. فقد كان الملك فؤاد هو خليفة المسلمين بحق، ودون أن يُخلّف دينياً بذلك، ولعل ما منعه من أن يتخلّف (أي يصبح خليفة) هو الشيخ الأزهري، والقاضي الشرعي علي عبدالرازق، وما أثير حول كتابه من قبل شيوخ الأزهر الداعين للخلافة كـ(الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر آنذاك)، وما تعرّض له عبدالرازق من تجريد لمشيخته كشيخ من شيوخ الأزهر، وإقصائه عن سلك القضاء، وعزله اجتماعياً وسياسياً... إلخ.

 إذن، فالخلافة الإسلامية ظلت باقية واقعياً في العالم العربي وإلى يومنا هذا، رغم إلغائها رسمياً منذ 1924، ولعل تسمية الرؤساء بالرؤساء، والملوك بالملوك، والأمراء بالأمراء في هذا العصر، ما هو إلا ضرب من ضروب التحديث السياسي المزيف الذي يُغطي العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.

فهل ما زالت الخلافة الإسلامية قائمة حتى الآن في العالم العربي، ولها تجلياتها المختلفة؟

 -4-

تتجلّى مظاهر قيام الخلافة الإسلامية في العالم العربي اليوم بالتالي:

الخلافة الإسلامية بعد العهد العُمري (عهد الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب 634- 644م) لم تعد نظاماً دينياً، وهي لم تكن نظاماً دينياً منذ البدء بقدر ما أصبحت نظاماً سياسياً، تحكمه المصالح والمنافع السياسية، أكثر مما تحكمه القيم الدينية، التي لم تأتِ لنا بنصوص سياسية كافية. فالقرآن الكريم، يخلو من ذكر الخلافة السياسية، وما السورتان الكريمتان اللتان أتيتا على ذكر الخلافة "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" (البقرة: 30)، وسورة "يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ" (ص: 26)، إلا سورتين ذكرتا الخلافة في باب الأمر بالتقوى، والعدل، والقسطاط، والرحمة... إلخ. ولم تكن تعني بالخلافة الحكم السياسي. وأن الأحاديث النبوية الشريفة، التي كانت تتحدث عن الخلافة السياسية، ما هي إلا أحاديث مختلقة وموضوعة وضعها الفقهاء، في بداية العصر الأموي والعباسي، لتثبيت الحكمين الأموي والعباسي.

إذن، لا نظام إسلامياً سياسياً تم وضعه جنباً إلى جنب مع أنظمة اجتماعية أخرى كالزواج، والطلاق، وخلاف ذلك، وأنظمة اقتصادية أخرى كالميراث، والحقوق المالية، وغير ذلك، فلا يوجد نظام سياسي إسلامي، وكل خليفة جاء، بدءاً بأبي بكر الصديق (632 م) وانتهاءً بعبدالمجيد بن عبدالعزيز (1924م) آخر خلفاء بني عثمان، كان يحكم ويدير شؤون الدولة بطريقة تختلف عن الآخر، فيما يتعلق بالمال العام، والإدارة، والعلاقات الخارجية... إلخ. ونحن في العالم العربي، لا يوجد لدينا كتاب يعالج المسائل السياسية غير الكتاب اليتيم لأبي الحسن الماوردي "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" الذي كتبه في القرن الحادي عشر الميلادي، وكتاب ابن تيمية "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" الذي جاء في القرن الثاني عشر الميلادي، بعد سيطرة المماليك غير الشرعيين على السلطة. وهي كتب قاصرة على الفترة التي كُتبت فيها، وموجهة إلى سلاطين ذلك الزمان، لحثهم على العدل، واتباع الحق، وليس لها أي امتداد فكري سياسي تاريخي.

ومن هنا يتبين لنا ألا تراث سياسياً لدى العرب والمسلمين، لكي يرتكزوا عليه في إدارة شؤون الحكم الآن، حيث كانت السياسة أسلوب حكم، وليست علماً أو فكراً سياسياً، كما يقول المفكر والأكاديمي الكويتي الراحل أحمد البغدادي في (تجديد الفكر الديني، ص 300) مما جعل الخلافة تمتد من 632 م إلى الآن، على نمط واحد، وهو النمط القبلي والبدائي البسيط (بيعة النخبة من أهل الحل والعقد) واللاديمقراطي والاستبدادي والدموي في معظم أزمته، باستثناء فترة قصيرة (12 سنة) التي تغطي عهدي أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب. ومن هنا نرى أن الخلافة الإسلامية منذ عهد معاوية بن أبي سفيان إلى عهد آخر سلاطين آل عثمان عبدالمجيد بن عبدالعزيز (661- 1924م) كانت خلافة دموية أُخذت بقوة الساعد وبالسيف. فالخلافة الإسلامية بنظامها السياسي التوارثي الذي حكم العالم العربي أكثر من عشرة قرون مختلفة (الأمويون والعباسيون والعثمانيون) مازال قائماً إلى الآن في العالم العربي من خلال الأنظمة الملكية والجملكية (الجمهورية الملكية) والأنظمة الجمهورية التي تورّث الخلافة لمن هم من قيادات الحزب الواحد الحاكم لهذا البلد أو ذاك، منذ سنوات طويلة قد تصل إلى أكثر من نصف قرن من الزمان. ومن الملاحظ أن الخلفاء في العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين كانوا في معظمهم على شاكلة الولاة في التاريخ العربي- الإسلامي الكلاسيكي. وأن بعض خلفاء العصر الحديث كانوا أقوى كثيراً من خلفاء كثيرين في العصرين الأموي والعباسي.  (للموضوع صلة).

* كاتب أردني