«انغلاق المجتمع على نفسه يعني نهايته»

نشر في 10-07-2013 | 00:02
آخر تحديث 10-07-2013 | 00:02
سليمان العسكري: الأحزاب الدينية أنتجت الفرز الطائفي في الكويت

يشدد رئيس تحرير مجلة «العربي» السابق الدكتور سليمان العسكري على أن التيارات الدينية بطوائفها كافة وأفكارها ليست أحزاباً دعوية بالمعنى الديني بل هي أحزاب سياسية تهدف إلى تحقيق مكاسب ملموسة في الواقع السياسي والنفوذ المالي في المجتمع، معتبراً أن السماحة تلاشت بين التيارات الدينية عقب دخول هذه الأحزاب ذات المذاهب الإسلامية في مرحلة الغلو واستبعاد الآخر تطبيقاً لرؤية الحزب وليس إعلاءً للدين. ويحذر العسكري من الفرز الطائفي والتقسيم في المجتمع الكويتي الذي جاء نتيجة عملية تثقيف الأحزاب الدينية لمنتسبيها، فأفرز كوادر غير قابلة للتطور ومواكبة احتياجات العصر وقبول التعايش مع الآخر، لافتاً إلى أن النسيج الاجتماعي الكويتي تميز قديماً بالتعدد ولم يشهد حالات تكفير أو إقصاء للآخر، لأن أفراده يعون جيداً أن انغلاق المجتمع يعني نهايته.
«الجريدة» التقته للحديث عن قضايا دينية وفكرية يُعايشها المشهدان المحلي والعربي راهناً، وفي ما يلي نص الحوار.
كيف يظهر التطرف في المجتمع وما أسباب انتشاره؟

 

مذ بدأ تشكل المجتمع الكويتي اكتسب مواصفات خاصة جداً، لا سيما خلال المئة عام ونيف الماضية، فقد عرف النسيج الاجتماعي اتجاهات دينية منوعة بحكم الموقع الجغرافي البحري والتجاري للكويت، ونظراً إلى رواج حركة التجارة البحرية والنقل في تلك الفترة. استقطب ذلك الرواج  أجناساً مختلفة وأعراقاً متباينة تحمل انتماءاتها وعقائدها المذهبية منها والقبلية، تشترك جلها في البحث عن مصدر الرزق والعيش الكريم، فشكلت هذه الشرائح لحمة مجتمعية متعاونة تجارية واقتصادية وانعكس هذا التآلف والتلاحم على مكونات المجتمع الأخرى، وتفاعل الأفراد مع هذا المزيج من الثقافات مكتسبين صفات ومعارفاً وسلوكاً أكثر انفتاحاً وقبولاً للآخر.

من الضروري هنا التنبيه إلى أن الكويت كانت ميناء يربط بين شبكات الطرق التجارية وهي إيران والعراق وبلاد الشام وشبه الجزيرة العربية (نجد بصفة خاصة) وبين البلاد العربية الأخرى، فضلاً عن أن الكويت كانت محطة مهمة في طريق الحج. هذا التنوع الكبير في هجرة الأفراد والجماعات إلى الكويت أفرز نتائج على أرض الواقع ساهمت في تكوين سمات خاصة لهذا الكيان، فاكتسب المجتمع الكويتي صفة {مجتمع مهاجرين} وبتتالي الهجرات إلى الكويت من هذه البلدان المختلفة حملت معها أفكاراً ثقافية وفكرية وتراثية شكلت في النهاية المجتمع الكويتي، مجتمعاً مشرئباً إلى التفاعل مع الآخر ومكتسباً ثقافات مختلفة تساهم في تكوين سمات أفراده وطريقة حياتهم وسلوكهم بينهم، وبين الآخر الخارجي.

ومن المعروف أن ثمة مهاجرين إلى الكويت استقروا فيها وآخرين عادوا إلى بلدانهم وفقاً لظروفهم المعيشية وأحوالهم الاقتصادية وارتباطاتهم القبلية، كذلك واقع بلدانهم الاقتصادي، وممن استقر قادماً يحمل ثقافة وتقاليد وأفكار مجتمعية، وربما مختلفة أو قد تتقاطع مع أفكار أبناء المجتمع الكويتي فقهياً أو مذهبياً، لا سيما إذا عرفنا أن بعض رجال الدين ممن استقروا في الكويت أثناء مرورهم خلال رحلة الحج والاستكشاف وجدوا ما سرهم في هذه البقعة ومكثوا فيها كثيراً أو قليلاً وطابت لهم الإقامة وبعضهم من مصر وتونس وتركيا وإيران والبصرة والموصل في العراق، كذلك من بلدان أخرى. والتطرف يحدث دائماً من واقع المجتمعات والأفكار المنغلقة على واقعها والتي تهيب من غيرها وتتوجس منه الخوف على نفسها، خصوصاً من المجتمعات الأكثر انفتاحاً والأحدث أفكاراً.

لماذا حدث التنافر والتناحر؟

يجب أن ندرك جيداً أن الأفكار الدينية والمذهبية تزدهر وفقاً لعوامل تاريخية واقتصادية وسياسية وفكرية. اللافت، أن التعدد كان حاضراً في النسيج الاجتماعي آنذاك ولكن لم تكن نبرة الخطاب الديني بهذا التشنج والحدة، فلم يشهد تاريخ الكويت فترات حالات تكفير أو إقصاء لأسباب فكرية دينية. وعلى رغم وجود عوامل الخلاف، فإننا لم نسمع عن صدام محتدم ينتج منه لإلغاء الآخر وتهميشه. كذلك لم يكن المجتمع الكويتي «التجاري» منغلقاً على نفسه بل اتصف بالسماحة وقبول الآخر. وهذا المجتمع من الصعب أن ينغلق على نفسه لأن في الانغلاق ومعاداة الآخر نهايته. يسقط البعض من ذهنه أن المجتمع الكويتي لا يقبل «القسمة» لأنه إذا ما تم رفض مجموعة بذاتها التعامل مع الآخرين فإنها تعمل بذلك على هدم هذا الكيان الصغير وتفكيكه، وتقسيمه.

وقد شهدت الكويت دائماً اتجاهات وأفكاراً دينية ومذهبية متباينة، فثمة اتجاه مغال متعصب متخوف من الانفتاح، قادم من بيئة منعزلة قليلة التعليم، مقطوعة من مناطقها في نجد وغيرها، وكانت تتصف بالتخلف الفكري والثقافي معاً، وعلى تيارات أخرى كانت ترد إلى الكويت أيضاً من العراق والشام تمثل أفكاراً أكثر تفاعلاً مع قضايا الحياة الاجتماعية المعاصرة، لا سيما في ظل توافر مراكز علمية وبحثية ومؤسسات تربوية في هذه المناطق الشمالية. لذلك تجاور وتساكن في الكويت ذلك التعدد الثقافي والديني والفكري، والقبلي أيضاً، تجاور في المساجد والمناطق السكنية وفي الأسواق والتضامن التجاري، وفي المدارس القديمة والحديثة. والراصد لهذه الفترة من التاريخ الكويتي سيجد أن ثمة سجالاً فكرياً نشأ بين هذه التيارات الدينية المختلفة، وقد كان أبطاله ممثلين في خطباء المساجد والفقهاء وقضاة المحاكم الشرعية وبين الشعراء والأدباء وغيرهم من مشايخ كبار، لكن جل حواراتهم اتسم بالثراء ولم يشهد انحداراً أو تشنجاً كما يحدث راهناً، وكانت الحوارات تدور في الدواوين والأسواق والمساجد، وبعضها على صفحات المجلات التي تصدر في العراق والشام وحتى مصر، قبل صدورها في الكويت.

المجتمع الكويتي كان ينعم بثقافة الاعتدال، فما أسباب التقهقر الحاصل راهناً؟

أعتقد أن السماحة تلاشت بين التيارات الدينية عقب دخول هذه المذاهب الإسلامية في مرحلة الغلو واستبعاد الآخر، لا سيما أن هذه الاتجاهات تحولت إلى أحزاب سياسية تتبنى أفكاراً دينية. بالتالي، فإن التعصب سيكون للحزب وليس للفكر الديني مهما حاولوا الترويج عكس ذلك، فهم متعصبون لأحزابهم التي ينضمون إليها، ويربطون حياتهم اليومية بها وهي التي وتكلفهم بأداء بعض الواجبات وتلزمهم حتى بارتداء لباس معين والتمسك بسلوك خاص. ربما لا يدركون أن هذه التوجيهات والطقوس تدفعهم إلى أن يتحول الفرد من ولائه للفكر الديني إلى ولاء للحزب، ومع الوقت يصبح الحزب هو الدين وهو الوطن، ولذا نرى أن جماهير الأحزاب الدينية، وبعضها ينشق عن بعض لأسباب سياسية وليست دينية، هم الأكثر تعصباً واندفاعاً في تعصبهم.

لدينا ظاهرة توضح مدى التحول الذي حدث، ولا يزال يحدث لولا أعضاء الأحزاب الدينية بين الطوائف والمذاهب كافة. من الدين الواحد إلى الحزب، ويصبح هو المرجعية له في كل حياته. هذه الظاهرة تمثلت في اللباس، للرجل والمرأة. كيف تحولت هذه الظاهرة من توجيه حزبي إلى إعطائها صفة الدين والشرع؟ وهذا أيضاً يبرز كثيراً في التجمعات الجماهيرية، فنجد لكل حزب عمله ولكل طائفة شعارها... فأصبح علم الحزب ولباسه وشكله هو الدين والإسلام، وهذه كلها رموز وشعارات حزبية وليست من الدين في شيء، وجميعنا نذكر كيف بدأت تنمو الشعارات والرموز للأحزاب الدينية في جامعة الكويت في بداية التسعينيات، مع استعانة السادات بهم في مصر وتشجعوا في بقية البلدان العربية، خصوصاً الخليج، فأصبحت الدعوة الدينية تركز على غطاء الرأس للبنان وتقصير الدشداشة وإطلاق اللحية للشباب، وأخذت معركة «الحجاب الإسلامي وإطلاق اللحى سنوات طويلة من نشاطات الأحزاب الدينية، إخوانية أو سلفية أو شيعية، وأيضاً بطوائفها المختلفة. ومن هنا بدأ الغلو والتعصب والتثقيف بإلغاء الآخر واستبعاده ونبذه.

يشهد الحراك السياسي الكويتي في بعض حالاته استقطاباً طائفياً بهدف الوصول إلى كرسي البرلمان، فهل في ذلك دلالة على نضج سياسي؟

التجربة الديمقراطية الكويتية، ممثلة بالدستور ومجلس أمة منتخب، تؤكد خلال الخمسين عاماً الماضية أن التسابق للفوز بكرسي مجلس الأمة تستخدم فيه جميع الشعارات، دينية أو مكاسب معيشية...إلخ، لكنها عندما تصل إلى الكرسي تخفت هذه الشعارات، بحكم الواقع، ويأخذ المسار طريق القضايا التي تحكم حياة الناس، من سياسية واقتصادية وتعليمية واجتماعية. ونلاحظ في السنوات الماضية، خصوصاً مع بداية الحرب العراقية الإيرانية وما تلاها من احتلال وتحرير، أن تلك السنوات أنتجت بأحداثها الجسام انحرافاً بيناً نحو التعصب المذهبي والطائفي، والقومي أيضاً، فبسبب الغلو الطائفي وجدنا انحرافاً حتى في الانتماء الوطني العربي! وهذا الواقع انعكس على العمل الديمقراطي والسياسي، وأصبحت شعاراته تستخدم للتكتل وراء هذا المرشح أو ذاك حسب ما يثيره من نعرات في الناخبين، سواء كانت طائفية أو دينية.

لذا تعمق الشق الطائفي والديني والمذهبي... ولم يتحقق من الشعارات شيء على أرض الواقع... فالتنمية متوقفة، والتعليم يتراجع، ومركز البلد التجاري والاقتصادي يتراجع كل يوم مقارنة بالتقدم والتطور الذي تسير فيه مثيلاتها من دول الخليج. وهذا الانقسام يساهم في دفع السلطة السياسية إلى مزيد من الحذر ومحاولة إحكام قبضتها على الإعلام خوفاً من استخدامه المفرط في الشحن الطائفي والقبلي... وما أحداث ما يسمى بالربيع العربي وانحرافاته الطائفية والمذهبية وغلو الأحزاب الدينية في دعواتها وارتداداتها إلا نذير بما يمكن أن يحدث هنا، لا قدر الله، فيما لو لم نعِ المصائب التي تصيب دولنا العربية ولم نتعظ ونتعلم مما يجري، فاللعب بالعواطف الدينية والطائفية دائماً يوصل لاعبيه إلى جحيم الحروب والدمار... ولنتعظ مما حدث في العالم المسيحي من قبلنا، وما يحدث الآن في دول الإسلام. كثير من دول العالم الديمقراطية تضع قوانين صارمة تمنع وتجرم استخدام أي شعارات دينية في الانتخابات وتعتبرها من الجرائم الكبرى.

المشكلة هنا ليست في الدين الذي نبعت منه تلك القيم، بل في الأحزاب وهياكلها وقاداتها وما تمليه عليهم مصالحهم وتطلعهم للسلطة والنفوذ للتحكم في مصير الآخرين، ولأجل تحقيق تطلعهم إلى النفوذ والسلطة لا يرون في ما يقولونه شيئاً من العيب وحتى الخيانة للقيم السامية التي جاء بها الإسلام... فالغاية تبرر الوسيلة، مبدأ انتهازي عريق حاربته الأديان والأفكار الإنسانية النبيلة، ويأتي بعض الأحزاب الدينية ليعيد صياغته بجملة «الضرورات تبيح المحرمات»، بمعنى المحظور مسموح به إذا كان وسيلة لتحقيق أهدافك!! حتى لو كانت الأهداف تتعارض مع مصالح الناس.

يرى بعض الكتاب أن ظاهرة «الصحوة الإسلامية» في فترة الثمانينيات هي أحد أسباب ظهور التطرف وتناميه في بعض دول الجوار، ومن ثم في الكويت، فهل تتفق مع هذا الرأي؟

أود أن أتساءل في البداية، ما الذي تحقق خلال تلك الفترة، وما إنجازات ما يُسمى بالصحوة الإسلامية، وهل ثمة نتائج غير الدعوة إلى حجاب المرأة وإرجاعها إلى البيت وانتشار الجمعيات الخيرية التي جمعت ولا تزال المليارات على مدار أعوام ممتدة؟ جاءت الدعوة إلى الصحوة مع اعتلاء الإسلام السياسي الشيعي بقيادة الخميني سدة الحكم في إيران، وإشعال الحرب الدينية في أفغانستان لطرد الروس وإدخال الأميركيين مكانهم... ولم يجد حملة الصحوة إلا توجيه الدعوة لتحريض المسلمين ضد الآخر «الغرب وغير المسلمين»، فتأخرنا أكثر وتقدم غيرنا بسرعة فائقة.

 وصول الأحزاب الدينية إلى سدة الحكم في مصر وتونس ليس نتاجاً لصحوة دينية، إذ إن هذه الأحزاب كانت تحت الأرض إبان الحكم الدكتاتوري وعانت من قمع السلطات لها ومنعتها من ممارسة العمل السياسي، وحينما سقط النظام الحاكم برزت هذه التيارات على الساحة، لتجد التعاطف معها من الشعوب التي عانت مثلها من قمع وقهر تلك الأنظمة العسكرية في غالبها إن لم تكن جميعها، ولتجد هذه الأحزاب أمامها تحديات كبيرة تنتظرها، في مقدمها مدى إيمانها وقبولها بالديمقراطية وهل ستسمح بـ{تداول السلطة» أم ترفض هذا التغيير، لا سيما أن من يحتكر السلطة يتحول إلى دكتاتور.

يستند البعض إلى حديث {من رأى منكم منكراً...} باعتباره رخصة إسلامية لممارسة العنف ضد أي منكر. كيف ترى ذلك؟

ثمة تساؤلات كبيرة تنبغي الإجابة عنها قبل الشروع في هذه الرخصة. أولاً: تحديد مفهوم المنكر، ثانياً: انتقاء الآلية المناسبة لمعالجة هذا الموضوع، ثالثاً: من هو الشخص أو المؤسسة المكلفة بهذا التغيير؟ كيف يترك لكل فرد من جانبه تغيير أي فعل تحت ذريعة أنه منكر؟ وأين هنا الدولة وولي الأمر؟ ما مهمتها ومهمته إذاً؟ أليس في ترديد هذا الأمر دعوة إلى التمرد على الدولة ومؤسساتها وإلغائها؟ أليست هذه دعوة إلى الفوضى والتخريب وإشاعة سياسة الغاب... و{القوي يأخذ الرجيج»؟ فضلاً عن انتهاك القانون، وإسقاط لسلطة الدولة مؤسساتها.

هل تساهم المناهج التربوية في الكويت في غرس مبادئ التسامح وقبول الآخر وضبط النفس؟ وما الذي تحتاج إليه المؤسسات التربوية للمساهمة في بناء مجتمع متسامح متكافل اجتماعياً؟

لقد غفلنا عن مناهجنا التربوية زمناً طويلاً، وأدى هذا الإهمال إلى تسلل كثير من المتعصبين إلى الإدارات التي تشرف على المناهج وتضعها، وقد استطاع هؤلاء تغيير بعض الفصول في مناهج طلابنا الدراسية، لا سيما في مادة التربية الإسلامية، واستبدلوا فيها أجزاء كثيرة منتقين نصوصاً دينية بعينها، وفي الوقت ذاته غيبوا نصوصاً أخرى مركزين على تدعيم الغلو وكراهية الآخر. للأسف، تفيض المناهج بالعداء لشعوب العالم وأديانهم، والنتيجة أن ثمة انفصالاً مخيفاً وانقطاعاً مرعباً بين ما يدرسه الطالب في المراحل الدراسية الإلزامية والمرحلة الجامعية وما بعدها.

ومن الضروري التدقيق جيداً في انتقاء النصوص في المنهج الدراسي. علينا ونحن في القرن الواحد والعشرين إدراك أن الحروب الدينية ولّت إلى غير رجعة، والعالم الآن قرية صغيرة متشابكة اقتصادياً واجتماعياً ووسائل الاتصال الحديثة قَلبَت كيان كل العلاقات الإنسانية بين البشر، ونحن ما زلنا نغرس في نفوس الناشئة العداء للآخر ونعزل أمتنا عن هذا التطور ونحكم عليها بالفناء، لأننا ببساطة لسنا الأقوى في هذا العالم، لا اقتصادياً ولا سياسياً و لا صناعياً ولا فكرياً. يجب الاعتراف بأن شعوب العالم متفوقة علينا. لماذا نخدع أنفسنا؟ نحن أصحاب تراث وحضارة إسلامية، هذه حقيقة لكن الإبداع انتقل إلى شعوب أخرى لا تدين بالإسلام ومن يسربل نفسه بهذا الوهم كأنه ينطح الصخر.

ربما يتساءل البعض ما علاقة الآخر بمناهجنا، والإجابة أن ثمة علاقة وطيدة في هذا الجانب، نحن نحتاج هذا الآخر المتفوق علينا في كل شيء، فننهل من تجاربه الاقتصادية والتشريعية ونظمه المدنية، حتى الثروة النفطية التي ننعم فيها لولا الغرب لما استطعنا نقلها وبيعها وبالنظر إلى دول العالم الإسلامي بأسره لن تجد أي دولة تملك حوضا لبناء السفن أو الطائرات لذلك علينا إعادة النظر في مناهجنا، واستبعاد المواد التي تتضمن انغلاقاً عقلياً أو ذهنيا ووضع برامج ومواد جديدة تؤهل شبابنا وأطفالنا لأن يكونوا منفتحين على الآخر، وربما يعيد التاريخ نفسه وتضطر الأجيال القادمة إلى الهجرات بحثاً عن العمل، كما كان الأجداد والآباء يذهبون عبر السفن الشراعية في البحر لتأمين لقمة العيش، وإن لم تكن الأجيال القادمة تتسم بصفات تسمح لها في التعايش مع الآخر فستوصد أبواب الدنيا أمامها.

ما مدى تأثير التطرف في المشهد الثقافي المحلي؟

لا أفهم كيف يكون مثقفاً ومتعصباً في الوقت ذاته! أي ثقافة يتبناها هذا الذي يكره المختلف معه في الرأي؟ مع أن اختلاف الرأي شيء طبيعي لأن الله خلقنا شعوباً وطوائف مختلفة نتقابل ونختلف فنتفاهم ونتعاون. فمن يدعي الثقافة ثم يزاول في حياته اليومية تعصباً بعينه كرد فعل تجاه أي سلوك فمثل هذا الإنسان لا يمكن اعتباره مثقفاً، ومشكوك في وعيه الثقافي، لأن الثقافة ترتقي بوعي الفرد وتهذب رؤيته للحياة وترجح كفة العقل عنده، وتخلق منه إنساناً مؤمناً بالتطور والانفتاح، يفكر في الحياة وسبل تطويرها الواقع المدني للدولة، وغيرها من رؤى تسعى إلى الاستفادة من الواقع الإقليمي والدولي لخدمة الإنسان.

مصطلح المثقف كما أراه لا ينسجم مع التعصب والعدوانية، والمثقف هو الذي يستطيع تكوين رأي خلال رصد الحياة من حوله لاسيما إذا كان من ذوي من يعتد برأيه بناء على نظرة ثاقبة ورؤية متأنية، فالتعصب ضد الإنسانية بمجمل ثقافاتها وسلالاتها، ومن يعادي الكون ليس مثقفاً لكن نحن من نضع أنفسنا في دائرة المشكلات إذ إننا أطلقنا العنان لكل من يدعي فهم الدين أو كل من يحمل شهادة من كلية أو معهد يدرس أصول الدين والشريعة ونعتد برأيه، بينما يجب أن ندرك أن الشهادة الجامعية محطة في طريق العلم وليس العلم، والعالم ليس من يحمل شهادة دكتوراه بل من يملك سداد الرأي والفهم والعلم الحقيقي بعيداً عن الأهواء الشخصية والمآرب الذاتية وكذلك التعصب والتحزب، فضلا عن أن بعض الشهادات راهنا أصبحت كالسلع التجارية تباع وتشترى.

الدين الإسلامي ينبذ التطرف، وعلى رغم ذلك نشهد تزايداً في ظاهرة التطرف في البلدان الإسلامية، سواء العربية أو الآسيوية، فما الأسباب برأيك؟

نحتاج الآن إلى إعادة قراءة وفهم لمضمون ديننا الإسلامي الحنيف، وهذه القراءة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار حياتنا المعاصرة، لا سيما أن ديننا السمح قابل لكثير من التفسير. ومن منظوري، الدين الإسلامي يتطور ثقافياً وعلمياً وسيكون وسيلة ضد التطرف ووسيلة تنقلنا إلى قلب العالم المعاصر، كذلك علينا التخلي عن التفسيرات التي تنبذ الآخر وتكريس فهم مغاير يقربنا من العالم، ويجب أن تكون إعادة القراءة والفهم والاستيعاب مرتكزة على قواعد فهم الإسلام الذي جاء ضد العبودية والاستبداد فكان بمنزلة المخلص من الظلم والقهر للعالم القديم.

بموازاة ذلك، يجب أن نعمق قراءة تجارب المجتمعات العالمية الناجحة، كالتجربة الأميركية التي استطاعت تشكيل مجتمع متماسك وموحد على رغم أنه مجتمع مهاجرين مكون من عقائد دينية وقومية، أعراق من كل العالم. لذلك من المهم البحث عن العناصر التي حصّنت المجتمع الأميركي من الانقسام والصراع، خصوصاً تجربة الحرب الأهلية وأسبابها ونتائجها، وغيرها من تجارب كالمجتمع الصيني الجدير بدراسة أسباب تفوقه الاقتصادي، كذلك التجربة اليابانية.

هل ترى أن العالم الإسلامي قدّم ما يستحق لتصحيح الصورة المغلوطة التي كرّس لها الإعلام الغربي عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، وهل المؤتمرات التي ينظمها بعض الدول كفيلة بإحراز تقدم ضمن هذا الجانب؟

للأسف، العالم الإسلامي أخفق في تقديم صورة سليمة عن الدين الإسلامي وأخلاق المسلم، بل يومياً يقدم ما تدينه ويثبت عليه التهم ويبث ما يشوه الإسلام ويصور المسلمين كوحوش كاسرة وقتله. أقول بألم وحسرة إن الغرب يزداد اقتناعاً في كل يوم بأن إسرائيل تعاني من المسلمين القتلة الذين يرتكبون المجازر ويقتلون الضحايا أمام عدسات المصورين وهم يكبرون. للأسف، هذه المشاهد مقززة جداً، والبعض يفتخر بها.

في ما يتعلق بالمؤتمرات فهي مفيدة، لكن يجب أن تترجم نتائجها على أرض الواقع وتتحول إلى برامج تنعكس على حياة الناس وتطور مجتمعاتهم، ونصبح جزءاً من هذا العالم المحيط بنا، نتبادل معه المصالح والقيم، فكما يؤثر فينا لا بد من أن نساهم نحن أيضاً بما يفيده في حياته، ونقيم المجتمع المؤمن بالعمل واحترامه ونغير صورة مجتمعاتنا العربية لدى العالم والتي تقوم على الكلام والشعارات وتحتقر العمل والإنتاج.

الآن بعد مضي أكثر من عقد من الزمن على تفجيرات 11 سبتمبر 2001، ماذا حقق على أرض الواقع؟ العراق دمّر بأسلحة أميركية، وأفغانستان دمرت وأيضاً بأسلحة أميركية، والملاحقات مستمرة للقتلة والمشتبهين، فضلاً عن أن هذه الأفعال غير المسؤولة أدت إلى الإضرار بمصالح المسلمين في سائر أصقاع المعمورة، فالكل يعرف أن غالبية دول العالم الإسلامي تعاني الفقر المدقع فيلجأ سكانها إلى البحث عن مصدر رزق في البلدان الغنية، لكن هذه الأعمال المشينة دفعت بعض الدول الغربية الغنية إلى التشدد في مسألة قبول المهاجرين والتدقيق عليهم، وبذلك أغلقنا هذا المنفذ وتسببنا بقطع أرزاق الناس.

بعد ثورات الربيع العربي زاد العنف والتطرف في بعض الدول التي نجحت في تغيير أنظمتها الاستبدادية... ما تفسيرك لذلك؟

ثورات الربيع العربي على رغم نجاحها في التخلص من الأنظمة الدكتاتورية فإنها أخفقت في إقامة سلطة شعبية تمثل كل الناس بل تسلمت زمام الأمور تيارات وأحزاب تفكر وتعمل بنفس قيم ومنطق الحكام السابقين ولم يحدث التغيير الذي تنشده الشعوب، فالفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي السابق هو ذاته الذي ارتضاه الحكام الجدد.

لذلك أعتقد أن الثوار لم يقطفوا ثمار ثورتهم، والتغيير لم يصل إلى عقلية إدارة الحكم أو المنهج الفكري المتبع في تسيير الأمور. كذلك الهيكل التنظيمي للدولة، لم تطرأ عليه أي تغييرات فالمؤسسات الأمنية والتربوية والجامعية لم يطرأ عليها أي تغيير، اللهم إلا في الأشخاص.

الثورات ما زالت في بداياتها ولم تحقق إلا القليل حتى الآن ولا أتمنى القول بأنها خسرت أكثر مما كسبت حتى الآن، وأتوقع أنها لن تتوقف وربما تتطور الأمور وتذهب في اتجاهات أخرى لا يستطيع أحد التنبؤ بنتائجها، فما يحدث في ليبيا ومصر وسورية لا ينبئ بأن الطريق قد قارب على نهايته!!! والله المستعان.

back to top