السكن مقابل الموطن
ذات يوم، قال بيتر دراكر، معلم الإدارة المالية الرائد، "ما لا يمكن قياسه لا يمكن القيام به"، ولعله كان سيضيف أن ما يُقاس على نحو رديء يخرج في النهاية عملاً رديئاً.ولنتأمل هنا حال إسكان ذوي الدخول المنخفضة، فأغلب البلدان النامية، والعديد من البلدان الغنية، تعرف العجز في المساكن وفقاً لعدد الأسر التي تعيش في وحدات سكنية تُعَد غير مقبولة، ولكن المقصود بتعبير "غير مقبول" يتباين إلى حد كبير من دولة إلى أخرى، فالمياه الجارية والصرف الصحي والتيار الكهربائي من الضرورات الأساسية في الأميركتين، ولكنها ليست كذلك في الهند.
والمشكلة أن الناس لا يطالبون بمسكن؛ بل إنهم يطالبون بموطن، فالمسكن شيء؛ أما الموطن فهو عبارة عن عقدة في عدد كبير من الشبكات المتداخلة- مادية (الطاقة والمياه والصرف الصحي والطرق)، واقتصادية (النقل الحضري وأسواق العمل والتوزيع والبيع بالتجزئة والترفيه)، واجتماعية (التعليم والصحة والأمن والأسرة والأصدقاء). والقدرة على التوصيل بين كل هذه الشبكات تجعل الموطن عظيم القيمة.فالمدن، على سبيل المثال، من الممكن أن تصبح مساحات عالية الإنتاجية، لأنها تسمح للناس بالجمع بين مهاراتهم المختلفة من أجل صنع شيء لا يستطيع أي منهم أن يصنعه بمفرده، والناس قادرون على تبادل معارفهم، وتعلم بعضهم من بعض، والتجارة في ما بينهم. والواقع أن رؤى جين جاكوبس في هذا الصدد، والتي نشرت قبل أكثر من أربعين عاماً، تأكدت بفضل دراسات أحدث عهداً تم تلخيصها في كتب من تأليف إدوارد غليسر وإنريكو موريتي.ومن هنا، فإذا كان العجز موضوع القياس يتمثل بأحد المساكن بدلاً من أحد المواطن، فإن الحلول تعجز عادة عن حل المشكلة الحقيقية. فوزير الإسكان الذي يُطلَب منه بناء عدد معين من المساكن من المرجح أن يفشل في بناء عدد مماثل من العقد المتشابكة التي تؤلف الموطن. وفي نهاية المطاف فإن الكثير مما يجعل من المسكن موطناً يقع خارج اختصاص وزارته.وعلاوة على ذلك، فإذا تم تشخيص عجز المساكن بوصفه نُدرة العدد الكافي من المساكن، فإن الحل يكمن في بناء المزيد من المساكن لمن يفتقرون إليها- وهذا يعني الفقراء، ولكن هذا أشبه بافتراض ضرورة صنع سيارات جديدة لمن لا يمتلكون سيارات- أي هؤلاء القادرين على شراء سيارات مستعملة من أولئك الراغبين في التجديد. وهذا خلط بين صناعة البناء التي تبني مساكن جديدة وسوق الإسكان الأكبر كثيراً التي تشمل كل المساكن.ويزداد الأمر سوءاً، فلأن الفقراء لا يستطيعون شراء السكن الملائم بالاستعانة بمواردهم المحدودة، فلابد هنا من استخدام الموارد العامة. ومن أجل استهداف إعانات الدعم هذه بحيث يتم توجيهها إلى الأسر ذات الدخل المنخفض، فإن الحكومات تعامل الأسر من مستويات الدخل المختلفة بطرق مختلفة: فالأغنياء لابد أن يتولوا أمر أنفسهم، والأسر من الطبقة المتوسطة تزود بالمساعدات لتأمين قروض الرهن العقاري، أما الأسر الفقيرة فيقدم لها الإسكان العام. ولتعظيم عدد الوحدات المشيدة، يحرص وزراء الإسكان على التأكد من أن المشاريع تلبي مواصفات الحد الأدنى الذي يمثل عتبة معينة من التكاليف عن كل وحدة. ونتيجة لهذا فإن شركات الإنشاء تبحث عن أرخص الأراضي، والتي من الواضح أنها الأقل اتصالاً بالشبكات التي قد تجعلها أكثر قيمة.وقد أدى هذا النهج إلى تفاقم عزل الفقراء، ذلك أنه ساهم في إنشاء أحياء فقيرة متجانسة اجتماعيا- كما في فرنسا- حيث يعيش العاملون غير المهرة بين بعضهم بعضا، ومنعزلين عن الآخرين، الأمر الذي زاد من صعوبة تمكينهم من الاستفادة من اقتصادات التكتلات التي من شأنها أن تعزز من إنتاجيتهم. ولأن العديد من هذه التطورات بعيدة الاحتمال، فإن السكان يضطرون غالباً إلى الانتقال يومياً لمسافات طويلة في وسائل نقل غير مريحة ومكلفة من أجل الوصول إلى الوظائف الجيدة، وليس من المستغرب أن يفضل العديد منهم البقاء في الديار وممارسة أعمال خاصة، وهو ما قد يفسر السبب وراء تحول العديد من البلدان النامية إلى بلدان أكثر تحضراً ولكنها ليست أكثر إنتاجية.ويصبح الخلط بين بناء مساكن جديدة وسوق الإسكان أكثر عبثية عندما نتعامل مع الأسر النازحة. على سبيل المثال، واجهت الحكومة في فنزويلا وكولومبيا الحاجة إلى إعادة توطين عشرات الآلاف من الأسر النازحة بسبب الفيضانات في عام 2010. ورغم أن الحكومتين متباعدتان سياسياً، فإن كلاً منهما وعدت الأسر النازحة بمساكن جديدة في مناطق حضرية جديدة. حتى ذلك الوقت، تُرِك الناس لسنوات ينتظرون في الملاجئ، ومرة أخرى كانت المناطق الحضرية الجديدة تفتقر إلى الشبكات الكافية التي قد تجعل منها مواطن ملائمة، وألقي عبء إنشاء مجتمعات متكاملة على عاتق مجموعة تم انتقاء أفرادها عشوائياً وتضمن بعضاً من أقل الناس اتصالاً في المجتمع.ولكن بدلاً من ذلك، كان من الواجب المسارعة إلى إعطاء الأسر النازحة قسائم يمكنهم بها الحصول على مساكن لائقة دون تأخير. وهم ميالون إلى اختيار مساكن أقدم في أحياء راسخة متصلة بالفعل بالشبكات العديدة الكفيلة بتحويلها إلى موطن، وينبغي للمناطق السكنية الجديدة أن تجتذب بشكل طبيعي أولئك الذين يتمتعون بالفعل بعلاقات اجتماعية غزيرة، وهذا من شأنه أن ييسر من إمكانية البدء بإنشاء مجتمعات أكثر تكاملاً.ومن أجل فصل مشكلة نقص المساكن الإجمالي عن مشكلة الأسر التي تفتقر إلى السكن الملائم، ينبغي لصناع السياسات أن يعالجوا مسألة العرض والطلب. فعلى جانب العرض، لابد من توسيع الأراضي الحضرية بسرعة- بكل ما تشتمل عليه من بنية أساسية مادية واجتماعية- بالسرعة الكافية، وعلى جانب الطلب، لابد أن تركز إعانات الدعم على مساعدة الأسر في الاختيار من سوق الإسكان بأكمله.وهذا النهج كفيل بتشجيع إنشاء الأحياء المنتجة والمتنوعة اجتماعياً، بدلاً من العزل ونشوء جيوب من الركود الاقتصادي، ولكن هذه الغاية من غير الممكن أن تتحقق ما لم تُمنَع صناعة البناء من إملاء سياسات الإسكان للطبقات المتوسطة الدخل.ريكاردو هوسمان | Ricardo Hausmann* وزير التخطيط الأسبق في فنزويلا، وكبير خبراء الاقتصاد سابقاً لدى بنك التنمية للأميركتين، وأستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد حالياً، حيث يتولى أيضاً إدارة مركز التنمية الدولية.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»