في حقل المعاصرة الموسيقية الكلاسيكية تفتنني مشاتلُ الأزهار التي لم تنبت وتتفتح كاستجابة أو ردة فعل للعصر الحديث، المبتلى بالتوتر والتطاحن، وغلبة التقنية والآلة والإنتاج الضخم والموضات العابرة. موسيقيون يملكون في أعماق ذواتهم ما يطمعون في التعبير عنه، بغض النظر عن العابر من أفانين الموضة في عصرهم، والمتسلط على أذواق جمهورهم بفعل هيمنة أجهزة الإعلام والإعلان. إنهم فنانو الجوهر الثابت، الذي يرضي الهاجس الداخلي لخبرتهم الإبداعية، أو فنانو دوامة البحث عن الحقيقة وظلالها.

Ad

ثلاثة من المعاصرين في الإبداع الموسيقي طالما تابعت نتاجَهم في السابق، وأتابعه كلَّ حين يطلّون فيه علي: الفنلندي روتافارا Rautavaara (مواليد1928)، وهي السنة التي توقف فيها الموسيقي الفنلندي الرائد سيبيليوس عن التأليف، وبصورة محيرة، حتى موته عام 1957. روتافارا هذا لم يهجر خطَّ سيبيليوس الموسيقي باسم الحداثة وما بعدها، والتمرد على الجذور وما يليه، بل تابع المجرى. وعَبر هذا المجرى أنضج خصائصَه الفردية، رغم أنه، بعد دراسته في هيلسينكي، واصلها في الولايات المتحدة، وفي سويسرا. مغامراته الطليعية البارعة حتى مع السوريالية لم تمنعه من الاحتفاظ بحصانة الروح الموسيقية، التي لا تنشغل بالتقنيات والمهارات الشكلية لذاتها، بل تذهب بعيداً في هاجس شبه ديني، شبه ميتافيزيقي. أصغيت في الاصدار الذي بين يدي (عن منشورات ِApex) الى الكونشيرتو الرائع والغريب لأصوات الطيور مع الأوركسترا. هنا تكون أنت في حضرة الطبيعة مباشرةً، لا بالإيحاء، بالطريقة التي سمعناها في سادسة بيتهوفن، أو في بيانو الفرنسي ماسينيه، بل في حضرة أصوات طيور طليقة في حقل مفتوح، متنوعة في طبقات أصواتها، ومتنوعة في طبيعة نغماتها. ثم تشرع الأوركسترا في المناغاة معها، والتعارض أيضاً. العمل الآخر مع التشلو في صحبة الأوركسترا تحت عنوان "ملاك المغيب". والثالث رباعيته الوترية الثانية.

الموسيقي الثاني من معاصريّ هو البولندي بينديريتسكي (مواليد )1933. ليس ببعيد الشبه بروتافارا، من حيث حداثته المفعمة برائحة الجذور. إن ما يبدو تناقضاً في مسار نتاجه الموسيقي ليس إلا دليل أصالة فردية فريدة، فهو من جانب تقدميُّ النزعة الموسيقية من حيث الشكل والتنوع التقني، وسط محافظة شديدة في المرحلة البولندية ما بعد الاستالينية. وهو من جانب آخر مؤمن كاثوليكي وسط موجة الإلحاد الرسمي في المرحلة الاشتراكية. العمل الكورالي في الإصدار الجديد عن Naxos، أخذني في رحلة لا تنقطع عبر 36 دقيقة مفعمة بالتطلع الرومانتيكي الى الأعالي. العمل في ثلاثة مقاطع متواصلة مع بعض دون فواصل، تتناوب عليها أربع طبقات صوتية: سوبرانو، ميتسو سوبرانو، تينور وباص.

الموسيقي الثالث من معاصريّ هو الأميريكي نَد رورَم  Rorem  (من مواليد 1923). في حوار قديم معه قرأته في إحدى أعداد مجلة غراموفون الموسيقية، بدا لي هذا الموسيقي المسن عميقَ الأسى، بل الحزن الجريح، بسبب هذا التعارض الكاسر بين تيار الحياة الغربية التي يقودها الإعلان النفعي، وفاعلية الانتاج الضخم بدافع الربح، وبين الموسيقي المبدع المأسور بالعطاء الروحي الثر، دون حظوة واحتضان. وبدا لي عميق الحزن أيضاً لغَلَبة ظاهرة النجومية في الحقل الموسيقي، التي خُصَّ فيها العازف أو المغنّي أو قائد الأوركسترا، على حساب سمعة وشهرة المؤلف الموسيقي الذي يعتاشون على نتاجه وباسمه جميعاً. الناس يذهبون الى الكونسيرت لسماع العازف الفلاني أو المغني الفلاني أو قائد الأوركسترا الفلاني، لا لبيتهوفن أو شوبرت أم رورَم! وعلى أغلفة الإصدارات عادة ما تغطي الواجهةَ صورةُ هذا العازف أو المغني أو قائد الأوركسترا، في حين يبدو اسم المؤلف في الظل. إثارة تنمُّ عن حساسية عالية، أتابعها في كونشيرتو البيانو وكونشيرتو التشلو في إصدار منشورات Naxos.