مع اعتدال مناخ لندن، الذي لا يؤتَمن، زرتُ أكثر من معرض تشكيلي. في «التيْت مودرن» معرض استعادي للفنانة اللبنانية سلوى شُقير (مواليد 1916). لوحات وأعمال نحت صغيرة للتجريد المبكر، الذي يعود إلى الأربعينيات. المعرض احتفاء بريادة عربية في حقل الفن الطليعي. في «الأكاديمية الملكية» عرض لعينات من الطباعة الفنية منذ رامبرانت حتى فرويد اليوم. وإلى جانب هذا في الأكاديمية معرض وجدته أكثر إثارة للفنان الأميركي «جورج بيللوز» (1882-1925).

Ad

لست على معرفة بفنه، إلا أن لوحته «أيّل في شاركي» عن الملاكمة مألوفة لدي. المعرض يضم أكثر من سبعين لوحة زيت وليثوغراف، تتميز بميل متحمس لتصوير عالم الطبقات الدنيا من الحياة والأحياء. هناك صدى لا يخفى من عوالم الرسام الاسباني «غويا»: صراع دام للإنسان مع نفسه، مع القدر والطبيعة والحياة جملة. ما من لوحة إلا وتثير لديك مقدار التعارض في الحياة بين الجمال والقبح، المسرة والبؤس، عبر تلألؤ اللون وخشونة ضربات الفرشاة.

ولد بيللوزفي أوهايو، ولكن موهبته برزت كرسام في نيويورك. بدأ الدراسة فيها، ثم انسحب من الحياة الأكاديمية دون درجة. وفي عمر الثانية والعشرين، تحول إلى طالب فن عام 1904، ثم ظل كذلك حتى عام 1909. ولكنه كان ناشطاً على صعيد تقديم المعارض. في عام 1906 أنجز لوحة «فئران النهر» الرائعة ، ثم في العام التالي  أنجز لوحتيه «اثنان وأربعون طفلاً» و»نادي ليلي»، وعام 1909 كانت سنة  لوحة «أيل في شاركي» الشهيرة التي اختيرت لبوستر المعرض الحالي.

التقط بيللوز في لوحاته بين 1907-1915 صور الفجاجة والفوضى التي يعيشها أبناء الطبقة العاملة، ولم يغفل هجاء الطبقة الغنية. لقد كان حي «باوري» في نيويورك مصدراً رئيسياً لمواضيعه: أولاد الشوارع، المهاجرون، البغايا، الرياضيون، والملاكمون. وبذلك كان بيللوز قد ترك سجلاً حياً للمدينة قبل قرن من الزمان.

إلا إنه لكي ينمي فنياً إحساسه بالضوء وشحذ رؤيته البصرية بدأ بتنفيذ سلسلة من اللوحات عن نيويورك تحت تساقط الثلوج. هنا نلحظ الرغبة في إبراز التعارض الصارخ بين زرقة وبياض الثلج وبين جهامة ووساخة المدينة. هذا التعارض عُزز من جديد حين باشر بيللوز برسم سلسلة من اللوحات وضعته تحت الأضواء، تصور الرجال في حلبة الملاكمة. وهذه اللوحات تعتبر مساهمته الفارقة في تاريخ الفن بالتأكيد. اللوحات تغلب عليها العتمة، ولكن التعارض ذاته واضح بين هذه العتمة  والإشراقات الخاطفة التي تثيرها الضربات الخشنة للفرشاة. وكأنه يصور الملاكمين في اللحظات التي تسبق الضربة القاضية، حيث يبدو الوجه المليء بالكدمات دامياً،

والركبتان مرتخيتين بفعل التعب، والمشاهدون المتحمسون بالغي البشاعة.

نجاحه منحه فرصاً لحياة أفضل، له ولزوجته وبناته الصغار. ولكنه لم يغادر مواضيعه الأثيرة، ولا تطلعات وعيه الاجتماعي. فقد ارتبط في تلك الفترة بمجموعة راديكالية من الفنانين ذات ميل «فوضوي» واضح. أسهم في تحرير مجلة «الجماهير» الاشتراكية، وكان يزودها برسوم تصويرية ويصمم مطبوعاتها ابتداءً من عام 1911. إلا أنه لم يستسلم كفنان للهيمنة الأيديولوجية التي تتسم بها المجلة. ولعله انتصر للتدخل الأميركي في الحرب العالمية الأولى ضد الألمان، موثقاً موقفه هذا بسلسلة من اللوحات والليثوغراف عن الفظائع التي ارتكبها الألمان أثناء غزوهم لبلجيكا. وهذا الاندفاع ينتزع صفة السياسي عن فنه. لأن صرخة الاحتجاج الأخلاقي هي المحفز، وهي ضرورة.

في المرحلة الأخيرة من حياته القصيرة انصرف بيللوز إلى تصوير عالمه العائلي، زوجته وصغاره، كما عني بفن البورتريه. ولكن لوحاته في هذه المرحلة فقدت هويتها البطولية التي تميز بها.

لم يقتصر إنجاز بيللوز على الرسم، فمساهماته كانت كبيرة في فن الطباعة الحجرية أيضاً، والتي لم تكن تُعتبر آنذاك فناً قائماً بذاته في أميركا.