محاولة للتحرر من العقل (1)
تظل الرموز الشعرية معيناً لا ينضب للتأمل والتفكّر رغم تقادم الزمان وتجدد المشاهد الأدبية والثقافية. وأحمد شوقي أحد هذه الرموز الجدلية رغم تصرّم عصره وانصراف الذوق الفني عن بضاعته، إذ يظل في تراثه ما يلفت الانتباه ويستدعي التحليل في ضوء بصيرة أخرى عصرية.
فرغم الكم الهائل من المؤثرات الخارجية التي كان لها أبعد الأثر في صياغة شخصية شوقي الشعرية الرصينة، المقلِّدة، والمستسلمة لتجاذبات حياتها المعيشة، رغم ذلك، يمكن للمتأمل أن يقول بشيء من الاطمئنان إن شرارة البحث عن الذات والرغبة في التفرّد، والخروج من متن "العام" إلى هامش "الخاص"، ظلت نزعة خفية تومض بين حين وآخر كشمعة واهنة تغالب شحوبها وفرادتها في عالم من الرصانة واللياقات الثقافية والعقلانية المفرطة. هذه الشمعة المرهفة التي تومض بشرارة الذاتية والتي قلما تبين أو يُلتفَت إليها فيما أُثِر عن شوقي يمكن اعتبارها من "المسكوت عنه"، أو مما سقط من المتن وتعلّق بالهامش، وقد يُنظَر إليها كفضلة القول وهيّنه، مقارنةً بالسمت المتحفظ المصقول الذي اتسمت به شخصية شوقي وشعره ومكانته بين شعراء جيله. لسنا هنا بصدد تتبع واستحضار المتفرق من نماذج الشعر الذاتي المعبِّر عن شخصية شوقي في جوانبها الروحية والإنسانية، وإنما –ومنعاً لتشعب الموضوع وتناثره– سوف نقف عند نموذج تمثيلي واحد، وهو مسرحية "مجنون ليلى"، الذي نراه أقرب نموذج يصلح للمناورة والمساءلة، ويطرح بشكل صريح تجربة أحمد شوقي في صراعه الخفي بين التقيّد "بعقلانية" الخطاب الشعري ورزانته وشروطه التقليدية الاتّباعية، وبين محاولة التحرر من هذا الإسار والإخلاص لنوازع النفس الإنسانية وجموحها وبحثها الدائم عن التحقّق بما يتلاءم والحرية غير المشروطة التي تحلم بها. إن الولوج إلى هذا المنحى النفسي المنسلّ من عقلانية الواقع وصرامته نحو دهاليز الذات وتهاويمها في تراث شوقي يستلزم ولا شك المناورة حول مجموعة من المحاور ذات صلة بظروف الشاعر الزمانية والمكانية وبظروفه النفسية، وذات صلة أيضاً بقيم الواقع الثقافي، وبالموقف من الحب والمرأة، والموقف من التراث والموروث. إن الملمح الأكثر بروزاً في حياة أحمد شوقي يتضح في كونه عاش حياتين مزدوجتين على الصعيدين الشخصي والإبداعي، أو هو بالأحرى عاش في إهاب شخصيتين متناقضتين أشد التناقض. ولم تكن محنة التناقض في شخصية الشاعر سوى نتيجة ومحصلة لجملة من العوامل الظرفية الضاغطة التي تضافرت -ربما بشكل قسري- في تشكيل تلك الحياة وتحديد مساراتها. فهو من جهة وجد نفسه بحكم قدره الحياتي ابناً لعائلة ذات وضع أقرب إلى التميّز لصلتها بالحكّام والقصر، وهو مدفوع بحكم هذه التنشئة "المرتاحة" إلى تجربة ألوان من الرعاية والرفاه والتعليم المتميّز. وإلى جانب هذا الوضع العائلي والاجتماعي الشديد الرصانة والمتخم باللياقات والبروتوكولات في العلاقات والسلوك، هناك حائط لا يقل عن هذا صلابة ومنعة كان على شوقي مواجهته ومجاراته، وهو حائط الخطاب الشعري المطروح حينذاك، والذي كان ما يزال يؤسس لقيم الإحياء والبعث، وإعادة قراءة واكتشاف تاريخ التراث الشعري والنسج على منواله. ولكن إلى جانب هذا الشق من شخصية شوقي، هناك الشق الآخر المختلف والمناقض لهذه الصورة، وهو جانب الإنسان الذي سمحت له الظروف في مقتبل العمر وما بين عشرينياته وثلاثينياته أن يخرج من أسر البيئة والوسط والخطاب الثقافي عامةً نحو عالم متفتق بالجدة في كل ما يخص الفن والأدب والنقد وطروحات الفكر والفلسفة. وذلك حين انطلق شوقي نحو فرنسا وعاش فيها سنوات من أخصب سنوات العمر وأكثرها عنفواناً، وأقدرها على كسر القيود والموانع. وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الكم من المتناقضات والظروف -بكل زخمها الحياتي ومستوياتها الثقافية- ظل يعزز بقاء أحمد شوقي في إطار الرصانة والتقليدية المحافظة المأثورتين عنه، وفي الوقت ذاته يساهم في التعتيم على "ذاتيته" و"أناه" أو تهميشهما وإبقائهما في الظل. بل يمكن القول إن هذه المتناقضات ساهمت بشكل أفدح في استعداء النقاد له وثلبه شاعريته ووضعه في خانة شعراء الصنعة لا شعراء الشخصية كما فعل العقاد وغيره. ولعل استسلام الشاعر للصورة النمطية التقليدية التي رُسمت له و"استحسانه" لها، ومن ثم تكريسها، ساهم في إهمال النقد على وجه الخصوص للنماذج الشعرية الممثلة لذاتيته الذاهلة المتفتقة بصدق البوح وحميميته، والمُعبِّرة عن الجانب الآخر في شخصيته. وسنحاول في المقال القادم أن نقف عند أفضل النماذج تمثيلاً للمهمّش و"المسكوت عنه" في شخصية أحمد شوقي الأخرى، وذلك من خلال قراءة ما وراء السطور في أحد أعماله المتميّزة، وهو مسرحية "مجنون ليلى".