تماثيل المبدعين في لبنان، يغلب على كثير منها منطق العصبيات الأهلية والولاء المناطقي ووعاء الذاكرة الجماعية، وكل بلدة أو مدينة تحاول أن تبنى تمثالاً لمبدعها أو مبدعتها من باب القول إن هذا المكان أنتج «عبقرياً»، مع أن الوقائع تشير إلى مكابدة العيش التي عانها بعض المبدعين في لبنان. فقبل مدة قرأنا في إحدى الصحف اللبنانية أن أهالي شحتول في منطقة كسروان اللبنانية يرفضون ما يورده بعض المراجع عن أن مي زيادة أديبة وشاعرة فلسطينية، لأنها على رغم ولادتها في الناصرة، فإنها لبنانية بامتياز. لذا أقامت بلدية شحتول نصباً لها في ساحة البلدة، مسقطها. من يقرأ هذا الخبر ويعود إلى حياة زيادة يضحك أو ويبكي لشدة حماسة الناس إلى الولاءات والفلكلور الثقافي.

Ad

لا يعرف كثيرون مدى الأذى الذي تعرضت الأديبة بعد وفاة والديها، فقد وجدت نفسها وحيدة في بيتها من دون حماية أحد، فقررت إلغاء ندوة صالونها الأسبوعية في القاهرة، لكنها لم تنقطع عن التأليف والكتابة، إلى أن جاء إليها أحد أقربائها من لبنان، يسألها عن أملاكها ويرشح نفسه مديراً لأعمالها، فلما أكدت له أنها لا تملك إلا حسابات بسيطة دس عليها جواسيسه ليستطلعوا خباياها، ومن بينهم قريبة أحضرها لتقيم معها بزعم أنها خادمة لترعى شؤونها! وكانت لوالد زيادة قطعة أرض في بلدته شحتول استولت عليها عائلته، ما جعله يحذر ابنته من الثقة بأقاربه أو أقارب أمها، وعلى رغم ذلك لم تجد الكاتبة مانعاً من فتح بابها لقريبها الذي استطاع بالخديعة الالتفاف حولها لتوقع له على توكيل يخول له التصرف باسمها، وبحجة الترفيه عنها استدرجها إلى لبنان لتجد نفسها في قبضته يدخلها «العصفورية» بقميص المجانين، زاعماً أنها تعاني اضطرابات عقلية تستدعي علاجاً دائماً.  لتكتمل رحلة عذاب خطت زيادة سطورها في كتاب «ليالي العصفورية» الذي توارت مخطوطته عن الأنظار ولم تزل. فهل يكون تمثال شحتول أشبه باعتذار للأديبة؟

سبق بعض البلدات بلدة شحتول إلى إنشاء تماثيل «لأبنائها» المبدعين، فكان تمثال الياس أبو شبكة في زوق مكايل، وجبران في بشري، وفؤاد أفرام البستاني في دير القمر، وموسى زغيب في حراجل، ومارون عبود في جبيل، نصري شمس الدين في جون، ورشيد نخلة في الباروك، وشفيق المعلوف في زحلة... هذه المدينة البقاعية حيث كان الشاعر أحمد شوقي يمضي الصيف في فندق القادري فخصص لها قصيدة  «جارة الوادي»، لحّنها وغنّاها الفنان محمد عبد الوهاب ثم غنتها فيروز، وتخليداً لشوقي شّيد له عباس عرابي تمثالاً داخل كازينو عرابي في زحلة عام 1971، ثم وفي عام 1999 تمت إزاحة الستار عن تمثال نصفي لعبد الوهاب إلى جانب تمثال شوقي في كازينو عرابي نفسه. والنافل أنه من النادر أن نجد تمثالاً لغير لبناني في لبنان.  

درة الشرق

تنتشر تماثيل المبدعين في البلدات خصوصاً، أما بيروت التي كثيراً ما توصف في «درة الشرق» الثقافية، فتسيطر عليها التماثيل والأنصاب السياسية التي تشكل ما يشبه الذاكرة الجماعية لتياراتها السياسية ونسيجها الاجتماعي، فيما تبدو تماثيل المبدعين ثانوية وعابرة. وحظي جبران بتمثال نصفي وحديقة قبالة الاسكوا في وسط بيروت، وهو أحد الأدباء الذين لاقوا اهتماماً في لبنان والعالم.

الروائي توفيق يوسف عواد الذي قتل خلال الحرب الأهلية اللبنانية بقذيفة سورية، نرى له تمثالاً صغيراً عند زاوية شارع في منطقة المتحف في مكان غير مناسب، إذا جاز التعبير، وثمة تماثيل لمبدعين في قصر الأونيسكو تعيش في دائرة الإهمال. أما تمثال الرسام عمر الأنسي في وسط بيروت فيبدو الأكثر انسجاماً مع مكانه، فهو فيقف حاملاً ريشته متوسطاً شجرتين عملاقتين ترعى بينهما غزالتان. من دون أن ننسى تمثال الصحافي سمير قصير في حديقته، ويغلب عليه الطابع السياسي أكثر منه الأدبي، ولهذه الأسباب شكل مكان تواجده محوراً لعدد من التحركات السياسية والمدنية.

لبنان الذي يبدو كمتحف لتماثيل في الهواء الطلق، سبق سوريا ومصر في الحرب على التماثيل، فعدا عن التماثيل السياسية التي تعرضت للنسف في بيروت وطرابلس وبكفيا ومدن أخرى، تعرض أيضاً تمثال الشاعر خليل مطران للتفجير في بعلبك عام 1985 في خضم سيطرة «حزب الله» على المدينة، وأعيد الى مكانه في صيف 1995.

لا ضرر في القول إن كثيرين يحبون الشاعر أو الأديب تمثالاً أكثر منه صاحب كتاب، باعتبار أن التماثيل تعبر عن لغتهم، على أن تماثيل المبدعين في ديارنا لا تجذب الجمهور لالتقاط صور إلى جانبها، ربما لأن الكثيرين يجهلون ما تمثِّل.