في نهاية الأسبوع الماضي، التزمت حكومة بشار الأسد رسمياً بأول مهلة حُددت لها ضمن إطار الخطة، التي أدت فيها روسيا دور الوسيط، والتي تهدف إلى تسليم الأسلحة الكيماوية السورية إلى السلطات الدولية، فقبل انتهاء هذه المهلة بساعات، سلمت دمشق لائحة بالأسلحة الكيماوية، ولا شك أن هذه الخطوة تعزز موقفها في نظر إدارة أوباما، التي كانت مستعدة لإرجاء المهلة المحددة لهذه المرحلة الأولى، ولكن، كما ذكرت وكالات الأخبار الأجنبية، لا تُعتبر هذه القائمة المسلمة كاملة، رغم إصرار وزير الخارجية الأميركي جون كيري على ضرورة تقديم لائحة كاملة وشاملة في غضون أسبوع واحد.

Ad

والأسوأ من ذلك أن سورية في الأيام التي سبقت هذا الإعلان اتهمت مرة أخرى وعن وجه حق بنقل مخزونها من الأسلحة الكيماوية، لكن هذا الواقع لم يزعج حتى اليوم إدارة أوباما أو وسائل الإعلام البارزة في الولايات المتحدة، فبينما تناقلت المدونات أخبار نقل هذه الأسلحة، ذكرت شبكة "سي إن إن" بتفاؤل أن مسؤولاً أميركياً لم تذكر اسمه قال إن اللائحة السورية المقدمة "كانت أكثر شمولية مما توقع المسؤولون [الأميركيون]".

بكلمات أخرى، توقعت الإدارة أن تتعرض للخداع، ورغم ذلك، قبلت بمسيرة دبلوماسية تكبل يديها وتربطها طوال أشهر بمفاوضات لا تثق بها، وتنتظر واشنطن اليوم قراراً لا معنى له سيصدر عن الأمم المتحدة يطالب سورية بأن تسلم أسلحتها الكيماوية كافة، إلا أنه يمتنع عن السماح باستخدام القوة في حال رفضت دمشق الانصياع. ومن المؤكد أن هذا التصريح الدولي، الذي يخفي وراءه إرادة ضعيفة، يلائم تماماً الأسد وراعيه الأول، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

في هذه الأثناء، تبدو الحكومة ووسائل الإعلام في الولايات المتحدة تواقة إلى الترويج "لانفتاح" الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني، رغم غياب الأدلة الحاسمة على أنه ينوي تغيير أي من سياسات طهران المتشددة. فقد سارع الرئيس أوباما إلى الاتصال بروحاني، ومن المتوقع أن يبدأ الطرفان "محادثات فعلية" بشأن برنامج إيران النووي. جاء كل ذلك بعد أن التقى جون كيري نظيره الإيراني في نيويورك وأثنى بتفاؤل على "اللهجة المختلفة جدا" عما كانت إيران تستخدمه في حوارها مع الأميركيين، ولكن هذا هو النظام الإيراني ذاته الذي تسببت شحناته من الأسلحة إلى المتمردين بمقتل مئات الجنود الأميركيين في العراق. وهذا بالتأكيد عمل حرب لم تعتذر عنه إيران أو حتى تعرب عن أسفها وندمها.

تكمن المشكلة الحقيقية هنا في عالم الأوهام الذي تتوغل فيه الدبلوماسية الأميركية، فلا يمكننا أن نجزم أن الاتفاق السوري سيخفق وأن روحاني لن يلتزم بالسلام، لكن تصديق ذلك يتطلب عملية تجميد لعدم الثقة تفوق القدرات البشرية، فبدل تعزيز الاستقرار حول العالم، تحاول الولايات المتحدة استرضاء الأنظمة العدائية، وتشكل حركة "طالبان" وصدام حسين استثناء في جهود واشنطن لمجاراة بعض أسوأ اللاعبين منذ سقوط الاتحاد السوفياتي.

خلال العقدين الماضيين، عمدت إدارات كلينتون، بوش، وأوباما مراراً إلى خفض معايير الدبلوماسية الأميركية، خصوصاً في علاقتها مع كوريا الشمالية (التي كانت حالة ميئوساً منها أولا، فباتت حالة نووية ميئوساً منها)، أفغانستان (التي انتقلت من مسألة إنقاذ دولة إلى أرض "قتل الجنود الأفغانيين الأميركيين")، الصين (التي تشعر أنها تتمتع بمطلق الحرية لتستفز جيرانها)، وإيران، وروسيا، وسورية اليوم. علاوة على ذلك، في السنوات العشرين الماضية، تعرض أصدقاؤنا وحلفاؤنا لإساءة بالغة بسبب خطوطنا الحمراء غير الجدية، ومحاولة واشنطن اليائسة للتقرب من الأنظمة المستبدة، وأهدافنا المبهمة.

عمل اللاعبون، الذين يحاولون نشر عدم الاستقرار، على زيادة سلوكهم الاستفزازي خلال العقود القليلة الماضية، خصوصاً بعدما شعروا بضعف الولايات المتحدة. صحيح أن بكين ودمشق لا ترغبان في اكتشاف ما إذا كانت واشنطن صادقة (أي في دفعها إلى رد فعل قوي تجاه استفزازاتهما المتكررة)، إلا أن مصداقيتنا في القضايا العادية تعرضت لضرر كبير. وسيعزز هذا في بعض الحالات المسار الذي سبق أن اعتبرته دول عدة الأفضل لمصالحها. ومن الأمثلة على ذلك سعي الصين لفرض مطالبتها ببعض الجزر والمناطق البحرية في بحرَي الصين الشرقي والجنوبي. أما في الحالات الأخرى، مثل روسيا، فيسمح هذا الوضع لبلد لا يتمتع بمصداقية ونفوذ كبيرين بالتوصل إلى طرق غير مقبولة لكسب النفوذ وضرب الاستقرار.

لكن المقلق حقاً موقف المسؤولين والدبلوماسيين الأميركيين، الذين يعتقدون على ما يبدو أنهم ينجزون عملهم على أكمل وجه طالما أنهم يوافقون على نوع من عمليات التفاوض أو يبقون الخيارات الدبلوماسية مفتوحة. صحيح أن عقلية "إنجاز الخطوة تلو الأخرى" هذه تحول أزمة اليوم إلى مؤتمر دولي غداً، ما يريح المسؤولين الأميركيين من مسؤولية التوصل إلى سياسة تخدم مصالح الولايات المتحدة بحل المشكلة، غير أن خصومنا يدركون أن الدبلوماسية اليوم تعني مواصلة الصراع بوسائل أخرى.

تملك كل كلية وجامعة محترمة برنامج "استراتيجية كبرى" (شاركت في أحد هذه البرامج حين درست في جامعة يال). ولكن رغم مئات الاستراتيجيين الشبان الذين نخرجهم كل سنة، هذا إن لم نذكر المؤتمرات الكثيرة والنسخ المعدلة التي تتناول "الاستراتيجية الأميركية"، نفقد تدريجياً قدرتنا على التخطيط الاستراتيجي ونخسر الكثير من مهاراتنا الدبلوماسية. نعاني راهناً نقصاً كبيراً في التفكير المبدع بين المسؤولين عن السياسة الخارجية، وعجزاً عن توضيح عواقب الخيارات الأميركية، وعدم رغبة في تحديد الأهداف الأميركية، وغياب المبادرة لتحديد منطقة وسطى بين المساعي الدبلوماسية والعمل العسكري. صحيح أننا نشهد بين الحين والآخر خطوات مبتكرة، مثل العقوبات المالية التي فرضتها إدارة بوش على مصرف نظام كيم نحو منتصف العقد الماضي، إلا أن هذه تأتي غالباً ضمن إطار السعي للتفاوض.

إذا قررت الولايات المتحدة الحد من قدرة قواتها المسلحة وتفادي الالتزامات الأجنبية الجديدة قدر الإمكان، فستحتاج بالضرورة إلى الاعتماد على أدمغتها. ويشمل ذلك المخاطرة المبتكرة ورفض القبول دوما بمقاربة "القاسم الدولي المشترك الأدنى". كذلك علينا أن نتحلى بالواقعية وأن نفهم أن معظم الأنظمة المستبدة حول العالم تضمر لنا السوء، حتى عندما تقدم لنا هبات دبلوماسية.

إن هوينا عن قمة النظام العالمي، فسنلاحظ بسرعة أن قوتنا ما عادت كافية لتغطي عدم كفاءتنا الاستراتيجية، ولا نرى اليوم أي أدلة تؤكد أن أياً من الحزبين الأميركيين يدرك هذا الواقع.

مايكل آسلين - Michael Auslin