طوال أربعة عقود، كلما جمعني لقاء مع أصدقائي الكتّاب والفنانين العرب، في أي زاوية صغيرة حول فنجان قهوة أو كأس شاي، يبدأ حديثنا بالسؤال عن الكتابة وينتهي بالوطن. يبدأ بالخاص لينتهي بالعام. لكن أحاديث لقاءاتنا انقلبت منذ سنوات، صارت تبدأ بالسؤال عن أحوال الوطن، وأحياناً نغيب في تشعباتها، حتى لننسى الحديث عن الثقافة. فما تراه قَلَبَ وقلّب حوارات الكتّاب والفنانين العرب؟

Ad

لقاء الكتّاب والفنانين العرب كان يأتي محمولاً على هموم الثقافة ومستجدات الإبداع وحلم المستقبل. يخوض في الكتابة والنشر وربما طال الملاحقات ووجع العيش، لكنه الأمل كان أبداً حاضراً هناك، وكأن الجميع كان يسند ظهره العاري إلى لوحة الغد المؤمل! لكننا اليوم معشر الكتّاب ما أن نلتقي، حتى ترسل أعيننا نظرة السؤال المؤلم: كيف هو حال الوطن؟ ودائماً ما نتلعثم خجلاً بالإجابة!

لقد صار السؤال مستحقاً: أين موقع الثقافة في أوطان تأكل أبناءها سائرة في دهاليز الظلمة؟ أين الثقافة في أوطان تشتعلُ حروباً ووحشيةً ودماً وخراباً، وليس من صبح قريب؟!

أي بطر يحمله سؤالك لكاتب عربي يأتي من أي قطر، لو أنك سألته: ما جديدك؟ وكيف تستقبل الإجابة حين تأتي ملطخة بوجع الروح: الوطن مذبوح!

في المطارات تكون الجدران والزجاج عازلاً للصوت، كي يجنب المسافرين الضجة العالية لمحركات الطائرات التي تضرّ وتؤذي السمع البشري. لكن، ماذا لو صار الوطن مطاراً لهدير طائرات الخراب، وأكلت الضجة المدوية جدران بيتك، في طريقها لجدران قلبك؟

هل مازالت القصيدة أو القصة أو الرواية أو اللوحة أو المسرحية تمتلك جراءة الوقوف أمام كاميرات المصورين، كاشفة محاسنها؟ أو أنها باتت تلبد خلف السواد، لا تجرؤ على كشف شيء من عوالمها، في لحظة لا يلوّن لوحتها البشعة إلا النفي والقتل ونحر الآخر!

من قال إن الكاتب العربي مخلوق عديم الإحساس؟ ومن قال إنه يسعى لبطر الكتابة معزولاً عن رائحة أنهار الدم التي تملأ خياشيم قلبه وروحه؟ ومن قال إن أقلام الكتّاب العرب، التي عادت تكتب على ضوء الشموع المرتجفة، في ضياءات القرن الواحد والعشرين الكاذبة، ستكتب عن شيء آخر غير كثافة سحب الظلمة؟

كيف بي أمتلك الصفاقة لأسأل صديقي الكاتب العربي ببساطة الجملة: ما هو آخر عمل لك؟ وأنا أعلم أن بيته مهدم، وأطفاله مشردة، وعرضه مستباح، وأرض وطنه ملعب لمجانين موجة القتل الحلال؟

يكفي أي إنسان عربي أن يتصفح أي جريدة عربية، يكفيه جداً أن يرى كيف أننا عدنا لوحشية غابة القتل، وعدنا لدهاليز الظلمة، وعدنا غير آمنين على احتساء فنجان قهوة على رصيف مقهى، عدنا للحظة ضياع الأمل! يكفي جداً قراءة أي جريدة عربية، حتى يحتل الوجع والألم واليأس قلب أي إنسان عربي، ويهوي به ثقل الفجيعة إلى قعر بحر اليأس!

لكنها الثقافة حتى وهي تبكي في مآتم الوطن، لا ترضى إلا أن تكون شجرة الحرية التي يستظل بها الحلم!

وحدها الثقافة، انتبه الجهلاء لها أو لم ينتبهوا، وحدها الأمل للحمة أبناء الوطن. فتحت مظلة الحرف والكلمة والأدب، يجلس الجميع إخوة إلى جانب بعضهم بعضاً. وهل تراني أبالغ إذا قلت إن حروباً طائفية، حروباً عربية عرّت وحشية الوحش في نفوسنا، لا شيء يستطيع التصدي لجنونها إلا الثقافة والفن.

أعلم تماماً أن كلامي هذا سيبدو للبعض كأنه ضرب من الخزعبلات والترهات، لكنها الحياة البشرية التي تقول: سيبقى الأدب والفن ما بقي الإنسان، فلا شيء يعينه على احتمال مرارة الواقع البائس إلا حلاوة قطعة سكر الفن والأدب.