يُرجع بعضُ الدارسين تاريخ الزجل إلى الجاهليّة الأُولى، يوم كان الحداء شائعاً على ظهر الإبل، وقيل في هذا الإطار إن عنترة والمُهلهل نفسيهما نظما زجلاً. والفصل الجاهلي من تاريخ الزجل يبدو بسيطاً ويخلو من التعقيد مقارنة بالفصل الأندلسي، فثمة دراسات تقول إن العرب في الأندلس عرفوا هذا النوع من الشعر، فنظموه وكتبوا فيه الدواوين؛ وأشهر زجَّاليهم ابن قزمان الذي وصفه ابن خلدون في «المقدمة» قائلاً: «إنه إمام الزجالين على الإطلاق». وقيل إنه (اي ابن قزمان) المتوفي سنة 1160 كان يحضر المجالس فيشيع فيها جواً من المرح والحبور بأشعاره وحكاياته وأزجاله، وبرر ميله إلى كتابة الأزجال بأنه يريد الوصول إلى أوسع فئات المجتمع.

Ad

لا تتوافر رواية واحدة عن الأصل الأندلسي للزجل. يقول البعض إنّ الموشح الأندلسي الذي أطلقوا عليه اسم «الشعر الزجلي» ابتدعه مقدم بن معافى القبري الضّرير الذي عاش بين سنتي 840 و912م. تلاه شعراء كثيرون آثروا هذا اللون من النظم «لسهولة تناوله وقرب طريقته» كما يقول ابن خلدون.  ثمة من يقول إن الزجال أخطل بن نمارة هو صاحب هذا الشعر، فقد أشاد ابن قزمان بحسن طبعه وحلاوة أزجاله في قوله: {ولم أر أسلس طبعاً وأخصب ربعاً من الشيخ أخطل بن نمارة فإنه نهج الطريق، وطرّق فأحسن التطريق}.

وبحسب بعض المؤرخين، راح الزجَل الاندلسي يمدّ جذوره أو حضوره في مختلف البلدان العربيّة حتى أصبح لكلّ بلد زجّالوه وزجَلُه المميّز عن غيره. فظهر الزجلُ المصري والتونسي والخليجيّ (المعروف بالنبَطيّ)، كما يُعرَف في لبنان بالشعر اللبنانيّ. وثمة صراع على هوية الزجل اللبناني نفسه، يقول الباحث خليل أحمد خليل: {الزجل عربي أصلاً، بعضه من بغداد وبعضه من قرطبة، والزجل اللبناني مشتق من هذا الزجل العربي} (راجع {الشعر الشعبي اللبناني} – دار الطليعة). وعلى غرار خليل، يعتبر الشاعر الزجلي أسعد سعيد في كتابه {أصل الزجل وفصله} (الدار الجامعية) أن {الزجل في لبنان عربي الوجه والقلب واللسان، عربي التراث}.

الشعر السرياني

لا تروق نظرية الأصل الأندلسي للزجل للكاتب أنطوان بطرس الخويري الذي أصدر قبل مدة كتاباً بعنوان {تاريخ الزجل اللبناني}، ويعتبر أن الشعر الزجلي اللبناني لم يأت من الموشحات الأندلسية المتأثرة بالأدب الإسباني والفرنسي والمستعربة كما أهل الاندلس، وإنما هو منبثق من الشعر السرياني القديم والموسيقى السريانية الكنسيّة. ويضيف الخويري أن الزجل بدأ على ألسنة الموارنة الذين توطنوا لبنان، وكان بعضهم يتكلم اللغة العربية وهي مزيج بين الفصحى والعامية، وقد حملوا معهم تراثهم السريانيّ وخصوصاً أناشيد ومنظومات مار افرام ومار يعقوب وغيرهما... واستناداً إلى كتاب الخويري، اتخذ الشعر الزجلي مقاييسه من الشعر السرياني، أي التزام الإيقاع، والخضوع للحن والنغم. ولكنه لما ترجم إلى العربية، اعتمد وحدة القافية والقياس العدديّ والسماعي المبنيّ على المقاطع اللفظيّة أو التّهجيَة أساساً لوحدة القياس، وليس على أوزان الخليل العربي، أي علم العروض والتفاعيل، وهو بدأ بالسّليقة فنّاً ابداعيّاً مركزاً على مُثلث: الموهبة، والفطرة والطرافة، مع قدرة على المساجلة والمبارزة والتحدي بجاذبية الفخر والحماسة.

وامتاز اللبنانيّون عن سواهم في الزجل أنّهم كَوّنوا فرقاً خاصّة للزجل تجمع بين أعضائها أربعة زجّالين؛ ويكون رئيس الجوقة أقدمهم وأكثرهم شُهرةً وخبرةً في القَول والارتجال. هكذا خرجوا بهذا الشعر من حيّز الخصوصيّة، أي خصوصيّة المناسبات الفرديّة، إن على مستوى الشاعر أو الغرض، إلى حيّز العموميّة التي تتّخذُ من المنبر ساحة لها، وانتقل الشعر الزجلي من المناسبة والهواية إلى الاحتراف، منذ تشكيل أول جوقة زجلية عرفها لبنان بمبادرة من جوقة {شحرور الوادي} عام 1928، واشتهرت بشعراء ثبتوا فيها إضافة إلى الشحرور أسعد الخوري فغالي، كان هناك الشاعر علي الحاج وأنيس روحانا وطانيوس عبده واميل رزق الله. مع هذه الجوقة وصل الشعر اللبناني إلى مصر. بعد ذلك انتشرت الجوقات في كل لبنان، ولم يكن للناس من سلوى يتجهون إليها غير الحفلات الزجلية في زمن لم يكن فيه تلفزيون بعد، أو فيديو، أو حتى راديو، كانت الأيام شفهية. وبعدما اتسعت الدائرة المرئية والمسموعة ظل الزجل على رونقه، ونجاحه في المهرجانات التي كانت تقام سنوياً، ويحضرها الآلاف، وقد شارك فيها أقطاب الزجل أمثال جوقة خليل روكز، جوقة زغلول الدامور، جوقة محمد المصطفى، وجوقة القلعة. ثم أتت فوضى الحرب اللبنانية، وانحسر الزجل في زمن التلفزيون إلى بعض الحفلات الصغيرة في القرى الجبلية.

واليوم يبدو أن ثمة موجة لكتابة تاريخ الزجل وتوثيقه بطريقة متحفية.