«وجدة» هو عنوان الفيلم الذي يمكن القول إنه أثار «صدمة إيجابية» عقب عرضه في افتتاح البرنامج العربي بمهرجان «دبي»، ليس فحسب لأن كاتبته ومخرجته هيفاء المنصور سعودية الجنسية، بل لأنه يتبنى نقداً لا تنقصه الجرأة ولا تعوزه الموضوعية، وينادي بضرورة الاختلاف، ومع نهاية أحداثه تحول إلى وثيقة سينمائية، ودعوة تحريضية إلى التمرد.

Ad

قدمت هيفاء فيلماً يحمل بعضاً من روحها وجرأتها ورغبتها في التغيير، فضلاً عن استمرارها في الدفاع عن المرأة السعودية إلى حين استرداد حقوقها، وإعلاء شأنها في مجتمع ذكوري ينظر إلى صوتها بوصفه «عورة»، وتتبنى سيدات داخله، بكل أسف، الرأي نفسه؛ مثلما فعلت حصة مديرة المدرسة التي تتعلم فيها وجدة، وتتعامل مع الفتيات بشكل عنيف للغاية، ودائماً ما تطالبهن بارتداء غطاء الرأس والالتزام بالزي الشرعي، وتعاقبهن لو تحدثن عن «الحب»، وبذكاء لا يمكن تجاهله تقدمها المخرجة «سافرة»،وامرأة محرومة عاطفياً تطاردها شبهات أخلاقية! التناقض ورصد أحوال مجتمع يعيش أفراده ازدواجية و»عوالم سرية»، كالأم التي تدخن السجائر خلسة وتغني باستمتاع كلما اختلت بنفسها، والفتاة التي تتورط في علاقة غرامية، والمساواة الغائبة التي تجعل من ركوب الأنثى السعودية الدراجة جريمة أخلاقية وذنباً لا يُغتفر، مهمة إنسانية نبيلة آلت المخرجة «السعودية» على نفسها أن تتصدى لها، من خلال «حدوتة» بسيطة في ظاهرها عميقة في محتواها ومغزاها! لا تسعى وجدة إلى امتلاك دراجة خضراء بسبب شكلها الجميل أو بحثاً عن متعة شخصية، كما هي الحال مع الأطفال، لكنها ترفض بإصرار أن تكون جزءاً من القطيع، وتتشبث بأن تُغرد بعيداً عن السرب، حين تتمرد على وضعيتها وتسعى إلى المساواة مع عبد الله، الذي يتباهى بدراجته وترفض أن يمن عليها بركوبها، مُعلنة تحديها له وقدرتها على قهره في أي سباق متكافئ، وفي سبيل هذا تدخر المال، وعندما تُدرك أن المشوار طويل توافق على المشاركة في مسابقة لحفظ القرآن جائزتها ألف ريال وبعزيمة وإرادة، وهي التي لم تُعرف في عائلتها بالالتزام الديني تفوز بالجائزة، ولحظة استلامها لا تُخفي نيتها في تخصيص قيمتها لابتياع دراجة، الأمر الذي يثير غضب مديرة المدرسة التي تعنفها قائلة: «تصرفاتك الغبية ستطاردك طوال عمرك»، وتكرر على مسامعها المقولة الرجعية العجيبة: «البنات هنا لا يركبن سايكل»، ثم تُجبرها على التبرع بقيمة الجائزة لفلسطين! في كل لقطة ومشهد وجملة حوار تُمرر هيفاء رسائل مهمة وقوية برقة ولطف، وتنأى بنفسها عن كل ما يصم فيلمها بالخطابة والمباشرة في ظل رغبة حميمية من جانبها في «التغيير» المبني على تعرية الواقع و»كشف المستور»؛ فهي التي تنتقد بطرف خفي، السائق الآسيوي الذي يختلي بالموظفات في مجتمع يؤكد على وجود «المحرم»، ويمنع نساءه من قيادة السيارات، وتندد بوالد الفتاة الذي يرغب في هجر أمها لأنها لم تنجب له «الولد»، كما ترصد المخرجة زيف الانتخابات القبلية وسيطرة المنتجات الصينية، والفراغ الذي يقود النساء إلى شغل الوقت بأحاديث «النميمة» عبر «الهاتف»!

إماطة اللثام عن «المسكوت عنه» كان دافع مخرجة فيلم «وجدة» للتركيز على تحذير مديرة المدرسة للفتيات بألا يختلين بأنفسهن، وألا تتلامس أيديهن واستنكارها للتربية الخاطئة التي تدعو المُعلمة إلى فضح بنات المدرسة على الملأ، بينما تغالي في الإعلان عن تدينها الظاهري، وطوال الوقت يرصد الفيلم التناقض بين مجتمع يُحقر من شأن «النساء» ويواظب على قراءة السورة القرآنية التي تحمل اسمهن، ولا يقرأ فيها سوى الجزء القائل: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ»، ويضطهد الزوجات في الخفاء بينما يردد في العلن: «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً»! بجرأة لا تعرف الاستسلام أو التراجع تُعلن المخرجة هيفاء المنصور تمردها عبر النص السينمائي الذي كتبته بنفسها، ولا تتردد في تسجيل انحيازها ومناصرتها إلى المرأة المُضطهدة، التي ترى أن رفع الظلم عنها لن يتأتى من دون تحلي بنات جنسها بالإرادة والقوة والترابط، كما فعلت الأم عقب إصرار زوجها على الزواج بأخرى، واحتضانها لابنتها «ما إلنا إلا بعض»، وفي بادرة تمرد جديدة تبتاع لابنتها «الدراجة»، وتخرج بها الفتاة في شوارع المدينة متحدية التقاليد البالية والأفكار المهترئة، وتلتقي بصديقها عبد الله، وتدخل معه في سباق هو رهان  من جانب المخرجة الواعية على المستقبل،وأملها في التغيير على أيدي أبناء الجيل الجديد، وفي لقطة عميقة الأثر في معناها تقف الفتاة بدراجتها عند «مفترق طرق» تاركة الوطن عند «المفترق» نفسه عساه يحدد مصيره... ويراجع أفكاره واختياراته!