ليس من السهل اختيار عنوان لكتاب أدبيّ إذا كان صاحبه يعيش همّ العنوان مثلما يعيش همّ النصّ. ومن العناوين ما يكون مفتاحًا مناسبًا لباب البوح ومنها ما يكون مفتاحًا في باب ليس له. في كلّ الأحوال يبقى العنوان الموفّق ذا سلطة لافتة على القارئ إلى حدّ بقائه أميرًا على بساط الذاكرة. {دماغٌ مليء بالأحذية} عنوان جديد لزينب بنت صالح الهذال.

Ad

يأخذك العنوان {دماغ مليء بالأحذية} إلى أكثر من مكان في جغرافية المعاني ويفتح أكثر من باب للتأويل، غير أنّ نصوصًا كثيرة في المجموعة تجعله يدلّ على حكاية الشرق القديمة الجديدة، التي لا حذاء فيها إلاّ للرّجل ليمشي به ويكون سيّدًا به ويعيده مساءً إلى الخزانة أو إلى رأس إحداهنّ. وفي هذا السياق تبدو المرأة حافية والأحذية التي تزدحم في رأسها ليس لها منها واحد لقدميها: {في عالمي.../ يكبر الرجال عظماء، وتكبر النساء.../ أمممم.../ يا لهذا الشكّ}. بمثل هذا الكلام تقول زينب بنت صالح الهذال بعضًا من حكاية وصول الأحذية إلى الرأس، ذلك الرأس الذي من المفترض أن يكون علبة أفكار أنيقة لا يطيل عمرَها إلاّ الاغتسال بندى يجود به الفجرُ حُرًّا...

تختار الهذال أن يكون الحبّ فاتحة كلامها، فتدلّ بصوتها على رجل بلا لقب وبلا صفة لتقول له: {أغمضْ عينيك قليلاً.../ أرهقَني الاختراق}. إنّه الحبّ يلوذ بلغة الصّمت، ويتّكل على العينين للنّقش وإغماد الأزاميل العاشقة عميقًا في الآخر. وعلى امتداد النصوص تحترف الكاتبة النصّ القصير جدًّا هربًا من الهدر اللغويّ، فيخذلها نصّ ويلبّيها آخر، لأنّها لا تلجأ دائمًا إلى تقنيّة الضغط والتكثيف، فترضى أحيانًا كثيرة بأن تقول القليل والعاديّ: {بدأ يخرج خلسة من فراشي.../ ربّاه.../ إعادة دباغة جلدي لا مناص منها}. صحيح أنّ القِصَر يعطي هذا النصّ شيئًا من التميّز التعبيريّ لكنّه يبقيه في دائرة المألوف ولا يوقفه عند باب الدهشة والمفاجأة. وأحد أهمّ شروط النصّ القصير تلك الصدمة الجميلة التي يهديها إلى المتلقّي.

وتبدو المرأة ذات حضور لافت في لغة الهذال، فهي مدينة من مدائن الحزن التي لا تعدّل في ملائكة الفرح في هندسة أبراجها، وهي التي تستعيد شكلها الجنينيّ تحت سماء الفاجعة: {تكوّرت من حزنها حتى بدت كجنين.../ صدمَها الفقدُ.../ ونال منها ثقبُه الأسود}. وهذه المرأة هي في نصّ آخر يصادر الاضطهاد دروبها وتجلدها لعنة الذكوريّة حين لا المعرفة تساعدها على أن يكون لحضورها معنى، وحين يصير أولادها المقطوفون من حديقة جسدها لقاطفهم فقط، وحين يحوّل وتد الخيمة جسدها علبة تلوين: {مزّق شهاداتها.../ هدّدها بالحرمان من أطفالها../ غسقٌ وشفقٌ على جسدها أبدعتْ أطرافه.../ قلبُها الأخضر.. يسمع ضحكات في أفق بعيد عن سماه}.

ملف ذكوري

في نصّ {على حين غفلة} تواصل زينب تقليب صفحات الملفّ الذكوريّ، وتعلن بشاعات الرّجل الشرقي الذي يشرّع ليده كلّ ما تصل إليه بعيدًا من مراعاة القيم الإنسانية: {دنا منها.../ ودنا منها... ودنا.../ فسُلبت البراءة}. إنّه وحش الجنس الذي لا تهنأ له الإقامة إلاّ في الرَّجل بينما الضحيّة لا تتّسع لها إلاّ المرأة. إنّها العلاقة القاتلة بين الـ{هو} والـ{هي}، العلاقة غير المتكافئة أو بمعنى آخر إنّه العقد الاجتماعي بين اثنين أحدهما موجود والآخر غير موجود. ونادرًا ما تصل المرأة إلى ذاتها الحاضرة، وإذا حاولت أن تكون هي ترمى على رصيف اللعنة وتمضي من جحيم إلى جحيم أكبر: {هجرتْه / لكنّها تركت ملاحظة: / من حقّك أن تبحث عن السعادة.../ لكن ليس من الباب الخلفيّ}. فالخيانة الذكوريّة لا تستطيع التخلّي عن الباب الخلفي لأنّ الرجل يريد امرأة ونساء، امرأة لإرضاء المتوارَث والاجتماعيّ، ونساء لإرضاء الجوع المزمن إلى وليمة الجسد، الجوع الذي يثبت أنّ زمن القبيلة لا يزال حيًّا يرزق وأنّ الخيام هجرت رمال الصحراء لترتاح في صدور الرّجال...

ويأتي نص {حالة شبه إنسانيّة} ليقدّم صورة الرّجل، أو التمثال القاتل: {كأنّه لوح/ بقامته الطويلة/ وعينيه الجامدتين/ ونظراته الحادّة/ لا تبدو العروق هنا... أمرًا مسلَّمًا به}. وإذا كان الرّجل يسكن هذه القساوة التي لا تترك الإنسان يولَد فيه فإنّ ولادة المرأة لن تكون إلاّ حين يسقط هو عن شرفة الحياة. {تنفَّسَتْ.../ حين توقّف قلبُه}. كم هي قاسية هذه المعادلة، وكم هو من المفجع ألا تتّسع الدنيا لقلبين يخفقان معًا!

قلب الرجل

ولا تتعب الهذال من تتبّع المرأة وقراءة حزن وجهها في مواقف وحالات متعدّدة، وما يؤلمها أنّ حبَّها أعجز من أن يكون جسرًا لها إلى قلب الرّجل، فكأنّ من واجبها الأنثويّ أن تحبّ، أمّا الرّجل فيكتفي بأنّه رجل كما أنّ قلبه يكتفي بأنّه مضخّة دم: {برمزيّة المرأة أظهرتْ عاطفتها.../ وببرجوازيّة الرّجل قال: إنّ الأمر لا يهمّه}. واضحٌ أنّ زينب بنت صالح الهذال محاصرة بحكايات نسائيّة تطلع منها رائحة الكآبة، وكأنّها ترثي المرأة التي أمست تُوأد فوق الرمال وليس فيها وبألف أسلوب وأسلوب. وواضح أيضًا أنّها تشكو أكثر ممّا هي تثور. فلغتُها ذات طابع تدويني للمأساة، ترى، تلاحظ، تسمع، تعرف... فتجمع صَيْدَها الموجِع وتأتمن عليه أوراقها.

وفي أكثر من موضع يظهر أنّ الحلّ لا يكون إلاّ بموت الرجل، فقوّة الحياة والعصر لا تستطيع أن تعدّل في جيناته الذكوريّة، كما أنّ المرأة لم تعد مؤهّلة لتلعب دور شهرزاد: {قتلتْهُ... لتصبح شجرة}، فهل القتل خلاص؟ وهل تحوّل النساء شجرًا يبقيهنّ على قيد الحياة والأنوثة؟... لا شمعة تضيئها الهذال في آخر النفق، ولا احتمال لولادة رجل. مناخ أسود يفترس طقس الكتابة. دورانٌ حول كلمة تتعدَّد لفظًا وتتوحّد دلالة.

ونصّ {دماغ مليء بالأحذية} قد يكون متكرِّرًا من أوّل الكتاب إلى آخره إنّما بكلمات مختلفة: {بكبر وتعالٍ... كان يعتقد أنّه يستطيع استبدالها بأخرى متى شاء! / لا عجب فهو بثلاث أقدام}. إذًا، كلّ النساء في الشرق لرجل واحد، وليس لامرأة رجل. وما تريده المرأة ليس أكثر من الحبّ. الحبّ يلد الرّجل إن آمن به والحبّ الذي لا يجده الرجل في امرأة واحدة لن يجده في نساء الأرض كلّها.

في {دماغ مليء بالأحذية} تضامنت زينب بنت صالح الهذال مع بنات جنسها أسيرات الحزن والظلم والوحدة والكآبة. ودلّت على رجل يبحث عن المرأة خارج المرأة ويجد لذّة في أن يكون صاحب مدينة نساء، غير أنّها لم تضع الجمرة المتوحّشة تحت عرشه. وكتبت بلغة تحتاج إلى بعض الصناعة، ولجأت إلى مجاز أوصلها إلى زبد المعنى المقصود أحيانًا، وأحيانًا أساء إلى النصّ بغموض لا يحتاج إليه.