الدول الفقيرة ومشكلة الناتج المحلي الإجمالي

نشر في 09-05-2013
آخر تحديث 09-05-2013 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت حتى في الأوقات الطيبة مالياً، نادراً ما تفيض الميزانيات والأموال المخصصة للتنمية، ويتعين على الحكومات والهيئات المانحة أن تتخذ قرارات صعبة لتحديد الجهات التي تستحق تركيز مواردها المحدودة، ولكن كيف يقرر المرء أي الدول تستحق الحصول على قروض ميسرة (منخفضة التكاليف) أو لقاحات أرخص ثمناً، وأيها قادرة على تمويل برامج التنمية الخاصة بها؟ تتوقف الإجابة جزئياً على الكيفية التي نقيس بها النمو والتحسن في حياة الناس. وتقليدياً، كان من بين العوامل المرشدة في هذا السياق نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي- قيمة السلع والخدمات التي تنتجها دولة ما في عام كامل مقسومة على عدد سكان هذه الدولة. غير أن الناتج المحلي الإجمالي قد يكون مؤشراً غير دقيق في الدول الأشد فقراً، ويشكل هذا مصدر قلق ليس فقط بالنسبة إلى صانعي السياسات أو الأشخاص الذين يطلعون مثلي على الكثير من تقارير البنك الدولي، ولكن أيضاً بالنسبة إلى كل من يريد استخدام الإحصاءات لدعم حجته في ضرورة مساعدة أفقر الناس في العالم.

كنت لفترة طويلة أعتقد أن الناتج المحلي الإجمالي لا يعبر عن النمو بشكل كامل حتى في الدول الغنية، حيث يتم قياسه بوسائل متطورة، لأنه من الصعب للغاية مقارنة قيمة سلال السلع عبر فترات زمنية مختلفة. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، كان اقتناء مجموعة من الموسوعات في عام 1960 أمراً مكلفاً للغاية، لكنه كان يحمل قيمة عظيمة بالنسبة إلى الأسر التي يواظب أطفالها على الدرس والتحصيل. (أستطيع أن أتحدث من واقع تجربتي الشخصية، حيث أنفقت ساعات طويلة في القراءة المتأنية في المجلدات العديدة لموسوعة كتاب العالم التي اشتراها والداي لي أنا وأختي). والآن، وبفضل الإنترنت، أصبح بوسع الأطفال الوصول إلى قدر أعظم كثيراً من المعلومات وبالمجان. كيف يمكنك أن تحول أمراً كهذا إلى عوامل حسابية في الناتج المحلي الإجمالي؟ وتصبح التحديات التي ينطوي عليها حساب الناتج المحلي الإجمالي أكثر شدة في الدول الواقعة إلى الجنوب من الصحراء الكبرى في إفريقيا، نظراً لضعف الهيئات الإحصائية الرسمية الوطنية والانحيازات التاريخية التي تشوش القياسات الحاسمة. وقد أمضى مورتن جيرفين، الأستاذ المساعد بجامعة سيمون فريزر، الذي أزعجه كثيراً ما اعتبره مشاكل مستعصية في الإحصاءات الوطنية في زامبيا، أمضى أربعة أعوام في فحص الكيفية التي تحصل بها الدول الإفريقية على بياناتها والتحديات التي توجهها في تحويلها إلى تقديرات للناتج المحلي الإجمالي. والواقع أن كتابه الجديد "أرقام هزيلة: كيف تضللنا إحصاءات التنمية الإفريقية، وماذا نفعل حيال ذلك"، يسوق حجة قوية مفادها أن الكثير من قياسات الناتج المحلي الإجمالي التي كنا نتصور أنها دقيقة بعيدة كل البعد عن الدقة.

ويلاحظ جيرفين أن العديد من الدول الإفريقية لديها مشكلة في قياس حجم اقتصادات الكفاف والأنشطة الاقتصادية غير المسجلة الكبيرة نسبياً لديها. فكيف يتسنى لك أن تضيف إلى حساباتك إنتاج المزارع الذي يأكل ما يزرعه؟ وإذا كنا ننتقص من قيمة زراعة الكفاف على نحو منتظم، فإن بعض ما يبدو وكأنه نمو مع انتقال اقتصاد ما من نظام الكفاف قد لا يعكس سوى تحول نحو شيء يسهل تسجيله إحصائياً.

وهناك مشاكل أخرى ترتبط ببيانات الناتج المحلي الإجمالي لدى الدول الفقيرة. على سبيل المثال، لا تقوم أغلب الدول في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا بتحديث بياناتها بما فيه الكفاية عادة. لذا فإن أرقام الناتج المحلي الإجمالي لديها قد تغيب عنها قطاعات كبيرة وسريعة النمو من الاقتصاد، مثل الهواتف المحمولة. فعندما قامت غانا بتحديث بياناتها قبل بضع سنوات، قفز ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 60%. ولكن العديد من الناس لم يفهموا أن هذا كان مجرد شذوذ إحصائي، وليس تغيراً حقيقياً في مستوى معيشة أهل غانا. وبالإضافة إلى هذا، هناك عدة طرق لحساب الناتج المحلي الإجمالي، ومن الممكن أن تسفر عن نتائج مختلفة إلى حد كبير. ويذكر جيرفين ثلاث طرق: مؤشرات التنمية العالمية التي ينشرها البنك الدولي (وهي إلى حد بعيد مجموعة البيانات الأكثر استخداماً)؛ و"جدول بين العالمي"، الذي تنشره جامعة بنسلفانيا؛ ومشروع ماديسون في جامعة غرونينغين، الذي يستند إلى عمل الاقتصادية الراحلة أنغوس ماديسون. تعتمد هذه المصادر على نفس البيانات الأساسية، ولكنها تعدلها بطرق مختلفة لمراعاة التضخم وغير ذلك من العوامل، ونتيجة لهذا فإن ترتيبها لاقتصادات البلدان المختلفة قد يأتي متبايناً إلى حد كبير. فليبيريا على سبيل المثال هي ثاني أفقر دولة في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، أو سابع أفقر دولة، أو الدولة الثانية والعشرين، من حيث الناتج المحلي الإجمالي، اعتماداً على الهيئة التي تستشيرها. ولا يقتصر الاختلاف على الترتيب النسبي فحسب، ففي بعض الأحيان قد يظهر أحد المصادر أن دولة ما تنمو بعدة نقاط مئوية، ويظهِر مصدر آخر أنها انكمشت على مدى نفس الفترة الزمنية. ويستشهد جيرفين بهذه التناقضات لكي يبرهن على أننا لا نستطيع أن نجزم بما إذا كان الناتج المحلي الإجمالي لإحدى الدول الفقيرة أعلى من دولة أخرى فقيرة، وأننا لا ينبغي لنا أن نعتمد على الناتج المحلي وحده في إصدار الأحكام حول أي السياسات الاقتصادية تقود إلى النمو. ولكن هل يعني هذا أننا لا نعرف حقاً أي شيء حول ما قد ينجح (وما قد لا ينجح) في تحقيق التنمية؟

كلا، على الإطلاق، فقد استخدم الباحثون لفترة طويلة تقنيات مثل دراسات المسح الأسري الدورية لجمع البيانات. على سبيل المثال، يتم إجراء المسح الديموغرافي والصحي بشكل منتظم لتحديد أمور مثل معدلات الوفاة بين الأطفال والأمهات، وعلاوة على ذلك، يستخدم خبراء الاقتصاد تقنيات جديدة مثل خرائط الأقمار الصناعية لمصادر الضوء لمساعدتهم في تقدير النمو الاقتصادي. ورغم أن مثل هذه الطرق ليست مثالية، فإنها أيضاً ليست عُرضة لنفس المشاكل المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي.

وهناك طرق أخرى غير مثالية بنفس القدر لقياس مستويات المعيشة الإجمالية في دولة ما؛ ولكنها رغم ذلك تقدم بعض الطرق الإضافية لفهم الفقر، فتستخدم طريقة تسمى مؤشر التنمية البشرية الإحصاءات الخاصة بالصحة والتعليم بالإضافة إلى الناتج المحلي الإجمالي. وتستخدم طريقة أخرى، مؤشر الفقر المتعدد الأبعاد، عشرة مؤشرات، بما في ذلك التغذية والصرف الصحي والقدرة على الحصول على وقود الطهي والمياه. ومن خلال استخدام معامل القوة الشرائية، الذي يقيس تكاليف نفس السلة من السلع والخدمات في دول مختلفة، يستطيع خبراء الاقتصاد تعديل الناتج المحلي الإجمالي بحيث يتعرف بشكل أفضل على مستويات المعيشة. ولكن من الواضح في نظري برغم ذلك أننا نحتاج إلى تكريس المزيد من الموارد للتوصل إلى أرقام الناتج المحلي الإجمالي الأساسية الصحيحة، وكما يزعم جيرفين، فإن الهيئات الإحصائية الوطنية في أنحاء إفريقيا المختلفة تحتاج إلى المزيد من الدعم حتى يتسنى لها الحصول على بيانات أكثر دقة، ويتعين على الحكومات المانحة والمنظمات الدولية مثل البنك الدولي أن تفعل المزيد لمساعدة السلطات الإفريقية في إنتاج صورة أكثر وضوحاً لاقتصاداتها. ويتعين على صانعي السياسات الأفارقة أن يكونوا أكثر صرامة في المطالبة بإحصاءات أفضل واستخدامها في اتخاذ القرار بناءً على الاطلاع والمعرفة الأوفر.

أنا من أكبر أنصار الاستثمار في الصحة والتنمية في أنحاء العالم المختلفة، وكلما كانت الأدوات المتاحة لنا لقياس التقدم أفضل، كان بوسعنا أن نضمن وصول هذه الاستثمارات إلى الناس الأكثر احتياجاً إليها.

* بيل غيتس | Bill Gates ، الرئيس المشارك لمؤسسة بيل وميليندا غيتس.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top