التدويل المفترى عليه
يسير الاتجاه العالمي في طريقه سريعاً نحو جعل القضايا المحلية جزءاً لا يتجزأ من المنظومة المجتمعية الدولية، وقد أقرت كل دول العالم في يونيو ٢٠٠٦ بذلك عند موافقتها على إنشاء مجلس حقوق الإنسان واستحداث أسلوب جديد في محاسبة الدول أطلق عليه "المراجعة الدورية الشاملة"، ما يعني أنه لا يوجد دولة عضو في الأمم المتحدة إلا وتتم مساءلتها، وسنعود لتلك الآلية لاحقاً. وقد بدا ذلك التسارع نحو قبول التدويل ملحوظاً في حقبة تسعينيات القرن الماضي، أي بعد انتهاء الحرب الباردة، وانتهاء الاتحاد السوفياتي كدولة عظمى. ذلك الاتجاه المتسارع لشرعنة التدويل، وجعله أمراً واقعاً، لم يقتصر على حقوق الإنسان فحسب، ولكنه شمل قضايا كمكافحة الفساد، والتجارة العالمية، والصحة، والبيئة، وغيرها. إلا أن بعض الدول مازالت تتمسك بمفهوم السيادة التقليدي الذي ظهر في القرن السابع عشر. تلك الدول، وهي في الغالب دول قمعية أو شبيهاتها، تصر على أن التدويل عبارة عن تدخل في شؤونها الداخلية، وتراه بمنظار سياسي بحت. ولذا نجدها تدفع أموالاً طائلة لشركات "علاقات عامة" مثل شركتَي "بوديستا" و"ليفنغستون" لتحسين صورتها ولتحريك قضايا معينة، أو تشويه سمعة تحرك مضاد، أو "التفاهم" لمنع اتخاذ قرار أو تحرك دولي محرج، وأن القائمين على ذلك التحرك الناقد لسلوكيات الدولة حقوقياً، جزء من مؤامرة دولية تستهدف النظام. وبالمقابل تقوم الدولة بإجراء بعض الإصلاحات والقرارات الشكلية داخلياً لكي تقول إنها ماضية في طريق الإصلاح وإنها متجاوبة مع متطلبات حقوق الإنسان، استجابة "للنصائح"، لكي يمكن الدفاع عنها في المحافل الدولية، وليس إدراكاً أن مفاهيم وقوانين وقيم ومنظمات وناشطين حقوقيين أصبحت واقعاً مكوناً للرأي العام الدولي، وهو واقع وجد ليبقى، وليتطور حماية للإنسان وكرامته، وهو واقع غير معني ببقاء الأنظمة القمعية أو زوالها، بقدر ما هو معني بسلوكها.
ضعف القدرة الإدراكية لدى الدول القمعية وأخواتها، يجعلها تتخذ موقفاً عدائياً وتفتح معركة مع المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، حتى إن بدا خطابها أحياناً مهادناً، ولكنها في كل الأحوال معركة خاسرة، وللأسف سيتم اكتشاف ذلك متأخراً جداً، كما سنرى.