استحق الرئيس مرسي، الذي لم تمض على رئاسته سوى سبعة شهور فقط، أن يدخل موسوعة "غينس" للأرقام القياسية؛ إذ أصبح بين أكثر الرؤساء في التاريخ الحديث رجوعاً عن قراراته.

Ad

بسبب قلة الكفاءة، وغياب الخبرة، والانسياق الأيديولوجي، وتوزع مراكز القرار بينه وبين مكتب إرشاد جماعة "الإخوان المسلمين" وذراعها السياسية حزب الحرية والعدالة، بات مرسي غير قادر على الثبات على قرار واحد يصدره أكثر من يوم واحد.

يتندر المصريون كثيراً على تلك الحالة، وينتجون عشرات النكات الحارقة التي تستهدف مكانة الرئيس وتظهره في ثوب العاجز والمتخبط.

إنه انتهاك فاضح لموقع "الفرعون"، وتعريض غير مسبوق بمكانة رئيس مصر، بل إنه استهانة واضحة وتجريح لمقام الرئاسة في أي بلد.

فقد بدأ مرسي عهده بقرار عودة مجلس الشعب (البرلمان)، الذي تم حله بحكم من المحكمة الدستورية العليا، لكنه ما لبث أن تراجع عن قراره، بعدما واجه عاصفة من الاعتراض والنقد، لتغوله على سلطة القضاء.

وأعاد مرسي الكرّة بقرار إقصاء النائب العام السابق عن منصبه، وهو تدخل فظ غير مسبوق في سلطة القضاء، لكنه تراجع أيضاً عن قراره اتقاء لمعارضة كبيرة آنذاك. وفي شهر نوفمبر الماضي، ارتكب الرئيس خطأ سياسياً فادحاً حين أصدر إعلاناً دستورياً هزلياً ليس له مثيل حتى في "جمهوريات الموز"، أعطى لنفسه بمقتضاه سلطات لا رقيب عليها ولا حسيب، محصناً كل قراراته مهما كانت، وجامعاً في يده سلطات الدولة التنفيذية والتشريعة والقضائية، في وضع قد يحسده عليه عتاة أباطرة العصور الوسطى.

لكن الرئيس عاد عن هذا الإعلان الدستوري الهزلي تحت ضغط مظاهرات عارمة، واستبدل به إعلاناً سيئاً آخر في شهر ديسمبر الماضي، لكنه أقل جنوحاً وخطلاً من سابقه.

ليس هذا فقط، لكن الرئيس أقدم على خطوة حساسة، حين أعلن ضرائب جديدة، كان من المفترض أن ترفع أسعار كل السلع في بلد منهك ومتراجع اقتصادياً على نحو قياسي.

وكالعادة، لم ينتظر الرئيس طويلاً؛ بل ألغى القرار بعد ساعات، متذرعاً بأنه في حاجة إلى إجراء حوار مجتمعي بصدده.

وعندما اشتعلت الاشتباكات والمواجهات في محافظات قناة السويس الثلاث، الأسبوع الماضي، خرج الرئيس بعد انتظار طويل، ليتوعد ويحذر، مستخدماً أصبع السبابة السلطوية باستعلاء غريب، ومعلناً فرض حظر تجوال على المحافظات الثلاث لمدة 30 يوماً.

وكالعادة، أيضاً فقد تراجع الرئيس بغرابة شديدة عن قراره الهزلي، مفوضاً المحافظين في المحافظات الثلاث، تقنين حظر التجوال وفق ما يتراءى لهم.

لقد انتهكت المحافظات الثلاث القرار بالفعل منذ لحظة صدوره، وهو أمر يمكن تفهمه ضمن الحالة الثورية التي تعرفها مصر الآن، وبالنظر إلى الارتباك والخطل اللذين تهيمن على أدائهما مؤسسة الرئاسة.

لكن المثير في الأمر، أن سكان المحافظات الثلاث أمعنوا في الاستهزاء بقرار الرئيس، فجعلوا موعد خروجهم إلى التظاهر في الشوارع في الساعة نفسها التي يبدأ فيها تطبيق حظر التجوال، والأنكى من ذلك، أنهم نظموا مباريات لكرة القدم خلال ساعات الحظر، ناهيك عن الهتافات المهينة التي رددوها بحق الرئيس المرتبك.

منذ اعتلى سدة الرئاسة، لم يشهد مرسي يوماً واحداً جيداً، باستثناء هذا اليوم الذي أدلى به بالقسم الرئاسي في ميدان التحرير، بعدما تم إعلان فوزه بفارق 1% فقط عن خصمه أحمد شفيق.

لم يظهر مرسي طيلة الأشهر السبعة الفائتة من عمر رئاسته أي مهارة أو كفاءة أو قدرة على تحمل أعباء الرئاسة في بلد منهك تركه مبارك على شفا الانهيار.

وفي غضون تلك الشهور السبعة، شهدت مصر عدداً كبيراً من الكوارث المتتالية، التي بدا الرئيس وحكومته عاجزين تماماً عن التعامل المجدي معها.

لكن الخطورة الحقيقية تتمثل بأن السياسات التي اتخذها مرسي قسمت الشعب المصري بشكل غير مسبوق، وخلقت حالة من الاستقطاب الحاد، وأججت نزعات العنف في الشوارع، حتى باتت مصر تواجه سيناريوهات الفوضى والاقتتال الأهلي أكثر من أي وقت مضى.

وأصبح واضحاً أن مرسي غير قادر على إدارة فترة التحول الديمقراطي بشكل نزيه، عندما رعى عملية تبني الدستور الانقسامي بشكل لم ينطو على أي حس أخلاقي أو سياسي، حيث تمت الموافقة على الدستور من قبل جمعية تأسيسية لا تضم إلا أعضاء حزبه وحلفائه، بعد انسحاب أعضاء كل القوى السياسية والاجتماعية الأخرى من الجمعية، بمن فيهم ممثلو الكنائس المصرية الثلاث.

يمكن تصنيف حكومة مرسي على أنها واحدة من أضعف الحكومات التي شهدتها مصر في تاريخها الحديث، كما يمكن وصف سياساته الخارجية بالتخبط والارتباك، حتى إن إدارته لأزمة العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة لم تسفر سوى عن حل مخجل، يبدو أنه تعهد خلاله بـ"لجم" حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لمصلحة أمن إسرائيل، خصوصاً أن إدارة أوباما حرصت على  تهنئته على إدارته للأزمة، التي شكره عليها نتنياهو.

أول أمس الجمعة، شهدت مصر تظاهرات حاشدة في مدن عدة تحت اسم "جمعة الخلاص"، وهي التظاهرات التي استهدفت قصر الرئاسة، بعد أداء صلاة الجمعة، التي حرص مرسي كالعادة على أدائها بين جحافل الأمن التي تحرصه.

من الممكن إيجاد بعض الأعذار لمرسي، لأنه منعدم الخبرة ومحدود التجربة، إضافة إلى صعوبة الأوضاع التي يجب أن يتعامل معها. كما يمكن التماس الأعذار له أيضاً بسبب تردي مهاراته الشخصية، وتوزع مراكز القرار بينه وبين جماعة "الإخوان المسلمين" التي يعرف الجميع أنها الحاكم الحقيقي من وراء الستار.

اليوم يفقد مرسي حلفاءه السلفيين، ويغمز أعضاء بحزبه من قناته، وتتأرجح مصر على حافة بركان، ويسود الغموض والارتباك، في ظل تراجع اقتصادي حاد، يعمق حال الفقر التي تركها مبارك.

وفي غضون ذلك، تتزايد نزعة العنف، وعدم احترام مقام الرئاسة، وتضيع هيبة الدولة، وتبدو البلاد على وشك التحلل.

 يجب على الرئيس مرسي، وجماعة "الإخوان"، وحلفائها من التيارات الإسلامية، أن يدركوا جميعاً أن الأوضاع لا يمكن أن تستمر في ظل رئاسة مرسي الضعيفة والمهترئة.

تطالب قوى وطنية أساسية في مصر اليوم بتشكيل حكومة "إنقاذ وطني"، وتعديل الدستور أو إلغائه، وعدم التغول على سلطة القضاء، لكن يبدو أن ذلك كله لا يقدم حلاً لأزمة حقيقية تتلخص في أن مرسي لا يصلح رئيساً لمصر أبداً، أو في هذا التوقيت بالذات.

يخصم مرسي من رصيد جماعة "الإخوان المسلمين" بضراوة، ويهدد مستقبل الحركات الإسلامية في دول المنطقة كلها، ويأخذ مصر إلى هاوية محققة، لذلك يجب أن يسعى الجميع إيجاد حل جذري لتلك الأزمة المستفحلة.

الحل لا يكون بإسقاط مرسي، والعودة إلى الشارع، لأن لذلك أثماناً فادحة على مستقبل التحول الديمقراطي في مصر، لكن ما يمكن فعله الآن يتلخص في ضرورة تجرع جماعة "الإخوان" كأس السم صاغرة، والمبادرة بالموافقة على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.

مصر في حاجة إلى انتخابات رئاسية مبكرة تنجيها من أكثر من ثلاث سنوات تحت حكم رئيس غير قادر وغير مؤهل، وتحفظ لها القدرة على مواصلة طريق التحول الديمقراطي.

انتخابات رئاسية مبكرة في مصر... أو انتظروا الكارثة.

* كاتب مصري