تداعيات المشهد المصري المنفلت من كل معايير التحليل السياسي الموضوعي، والغارق في بحر العشوائية السياسية، وهو مشهد أساساته تعود إلى بُعدٍ قديم يتجاوز ثورة يناير 2011، وحركة 6 أبريل 2004، وإعلان الإمارة الإسلامية في إمبابة في تسعينيات القرن الماضي، وتمرد جنود الأمن المركزي في 1986، أنه مشهد صنعته اختلالات اقتصادية واجتماعية خطيرة مزقت الدولة والمجتمع المصري، وحولته إلى مجتمع عشوائي، نتاجه الصبيان الذين يحرقون القاهرة والمدن الرئيسية في مصر، وحركات أصولية تستغل هذه الحالة، في خلطة دينية-سياسية، للحكم والسيطرة على واقع سيجعل مصر نسخة من الحالة الباكستانية غير المستقرة والمتقلبة بين الأصوليين والعسكر.

Ad

مصر دولة محمد علي ومشروع نهضة طلعت حرب ودار شيخ تجديد الفكر الإسلامي محمد عبده، تقاذفتها القرارات والسياسات العشوائية التي أفرزت الواقع الحالي، الذي دمرت فيه قدراتها الصناعية وعمالتها الماهرة بسياسات الخصخصة المتسرعة والمصلحية في سبعينيات القرن الماضي، وتدني الإنتاج وعدم تجديد وسائله، والأخطر إهمال الريف، الثروة الحقيقية المصرية التي جعلت مصر درة الشرق، وهو ما حول مصر إلى "العشوائية"، بسبب الهجرة المستمرة منه إلى المدن بسيل من المهاجرين الأميين من الفلاحين الذين صنعوا أحزمة العشوائيات حول المدن، وهم الذين يغرقونها اليوم، ويحرقون المتاحف ورموز حضارة دولتهم، التي لم يجحدوها لأسباب مختلفة.

في هذه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المأساوية، والتي انطلقت شرارتها الأولية في تظاهرات يناير 1977 في بداية انعطافة الرئيس الأسبق أنور السادات الخطيرة، بتحويل مصر في "يوم وليلة" من نظام التكافل الاجتماعي الاشتراكي إلى عصر "الانفتاح" الرأسمالي المنفلت، وجد الفاسدون فرصتهم، كما وجدت التيارات الإسلامية فرصتها التاريخية في اللعب على وتر شعار إنصاف وحماية الفقراء، الذين تصنع الأحاديث الدينية فعائلها معهم، خاصة العامة منهم، رغم أن التيارات الإسلامية لم تكن يوماً خصماً لرأس المال وأصحابه، فثورة الإمام الخميني لم تكن لتنجح بدون دعم تجار البازار وانقلابهم على الشاه، وأموال بن لادن والخليجيين هي التي صنعت "طالبان" و"القاعدة"، والإخوان المسلمون رموزهم تجار من خيرت الشاطر وما قبله، والمنتمون إليهم أيضاً في الخليج العربي من مصرفيين ورجال أعمال كبار، أبرزهم المرحوم عبدالله العلي المطوع.

الصورة في مصر، التي نحبها، سوداوية، فلن يتكرر فيها النموذج الماليزي، الذي صنعه في الغالب رجال الأعمال الماليزيون من أصول صينية، ولا الكوري الجنوبي الذي عاش نفس ظروف مصر، إذ كانت سيول دولة مواجهة وحروب، لكنها صنعت مربعاتها التنموية على طول البلاد وعرضها عبر مدن على أطرافها مربعات صناعية وزراعية وخدماتية متناغمة، ولن تستطيع أن تكرر كذلك نموذج دول أوروبا الشرقية في تحولها السلس من النظم الاستبدادية إلى دول ديمقراطية مستقرة، مستفيدة من تجارب الدول الأوروبية الأخرى، وفصل الكنيسة عن الدولة، بل حتى النموذج التركي صعب المنال على المصريين، لأن هناك من "يستعبط" المصريين، ويقول لهم إن حكومة تركيا الحالية إسلامية، وهي حقيقة علمانية بحراسة الجيش والقضاء، وكل ما هنالك أنها تلتحف بعباءة من التراث العثماني، تغطي تحتها كل أسس دولة أتاتورك العلمانية.

ما يحدث في القاهرة وربوع المحروسة، بعد الثورة التي أطلقتها الطبقة المتوسطة (وائل غنيم، حركة 6 أبريل... إلخ)، هي فوضوية يديرها الأصوليون وأبناء العشوائيات، وانتقام الجياع المحرومين الذين يحرقون رموز الدولة، التي لا يعتبرون أنفسهم ينتمون إليها، بسبب حالة الحرمان والتهميش الطويلة لهم، بسبب الفساد وسياسات البنك الدولي وصندوق النقد التي تبناهما نظام حسني مبارك بعد السادات بالحرف، واستمرار تسيد الأصولية الإسلامية، التي سيجدد الريف المصري الغارق في الإهمال والجهل في معظمه، لها، كلما حُكِم الصندوق الانتخابي، تماماً كما يفعل أبناء الريفين الإيراني والباكستاني، وستمر مصر بمراحل صعبة ومواجهات طائفية سيستحضرها الإسلاميون كلما احتاجوا للتأييد الشعبي والأصوات، لذا فإن مصر ولسنوات طويلة مقبلة ستكرر لعبة العسكر والإسلاميين العبثية الباكستانية... فلك الله يا أرض الكنانة.