أحلامي المضاءة بالأزهار
1 - وحدي على الشرفة أنظر إلى الحديقة وأرقب الزهرة التي نمَت حديثاً وسط صف كامل من النباتات الصغيرة. زهرة وحيدة، تُشبه أيامي القديمة في مغارات الليل. متى ستعبر الغيوم؟ الطبيعة فكرة موسيقية. الصمتُ سلاح العزّل. من الذاكرة يجيء الساحر ليوقظ ما تبقى فيّ من الأحلام. يجيء الساحر خفيفاً. موارباً. يقفز أمامي. يُذكرني بطفولتي. طفولة المسّرات واللعنات معاً. يرقص أمامي اهشُهُ فيعود. يوشوش في أذني: بأن المياه ستفيضُ في الوديان في بلدتك القديمة. ستجرف المياه قبور الموتى. حاذر! قبرك على تلك الحافة من الأفضل أن تستيقظ قبل فوات الأوان. الواقع عنيد مثل صخرة. انه وهمٌ برؤوس كثيرة. الإشارات الباطنية لمعنى الواقع. تضع أمامك فكرة الحياة. الليل هو الواقع الأكثر صلابة، حين تتنفس بصعوبة، وأنت فوق سرير خشبي يشبه التابوت.
2 - في ذلك العام كنتُ أغادرُ سماءَ الأب، بعد أن غادرت سماءَ الأم مبكراً. في وصيةِ الشقيقاتِ الثلاث صورةُ المستقبل على هيئةِ عينٍ ذهبيّة. ها أنا أستبدلُ حجارةَ أيامي بقفزةٍ واحدة. سأحتاج الآن إلى قوةِ الشقاء في أرضٍ بعيدة. «أرض أموات المستقبل» يقولُ شبح الأم. كأنني بالفطرة كنتُ حيواناً تائهاً. كأن الملجأ كان في انتظاري، ساعةَ الغسق.- أهكذا وصلتَ إلى هذه المدينة؟- أجل ووقفتُ أمام النافذة.كنتُ أنظرُ من خلف الزجاج بعينيّ صبيّ ميّت. في الشتاء أتكئ على جدارٍ أبيض وأستقبل أشعة الشمس الذهبيّة، رقيقةً كالموت. لكن دائماً ما تفاجئني، الرغبة كأنها مفتاح يضيع مني دائماً وكلما أعثرُ عليه أجدهُ يلمعُ من جديد. شيء غريب. أهذا هو الأمل؟ كنتُ أظنُ أن الأملَ طائرٌ حقيقي بجناحين كبيرين، وها أنا أكتشف الآن بأنني مخطئ. في الأعوام التي تلت، قررتُ وحدي أن أختبر الأفق، ظناً مني بأنني سأعثرُ على الجزّة الذهبية. - وهل وجدتَها؟- اكتشفتُ أن الرحلة هي «طواف دائمٌ حول المركز ذاته» وما تبقى ليس سوى كلام قليل يُشبه السحر، يأتيني من بعيد عبر أصوات، حارسات خطواتي، شقيقاتي الثلاث. 3 - في شارع طويل وخالٍ تماماً كنت أمشي وحيداً. الوقت قبيل الغروب بقليل، على جانبي الشارع تصطفّ أشجارُ الكاليبتوس الضخمة كما لو أنها تنحني لهذا الزائر الغريب. على مهل تنتقل خطواتي فوق الإسفلت.يا لها من مدينة غريبة، قلت لنفسي حتى كالفينو لم يحلم بها. كنت أسير ومن قبضة يدي يتدلى رأسٌ مقطوع، رأس امرأة بوجه يشبه قناعاً، غيرَ أن ملامحَ الوجهِ لاتزال تنبض وتتحرك. العينان مفتوحتان كأنما تستغيثان. الشفتانِ تتحركان أيضاً، هناك كلامٌ ينبغي قولهُ. لكن كيف أسمع ما يقوله هذا الفم الشبيه بقرنفلةٍ حمراء؟ الصمتُ وخطوط الجبين يوحيان بمأساة عميقة، كان الوجهُ كله كما لو أنه يُريد أن يقولَ كلّ شيءٍ دفعةً واحدة. لكن عن ماذا؟ لا أعرف.ربما عن صفاقة العالم، ربما عن خسارات فادحة.كان الوجه بشريّا وحقيقياً كأنه قناع، وبحركةٍ بطيئةٍ أشبهُ بحركةِ مفصل الليل والنهار، ثبتُّه على وجهي. من خلاله، من خلال وجهي الآخر، كنتُ أرى الغيومَ الرماديةَ وأشجار الخريف المطلة على تلالِ قرطبة.