تذكّر الشاعر لوحة الصرخة للنرويجي ادوارد مونخ، التي رسمها عام 1893، ومشهد اللوحة في مدينة نورد ستراند، فجأة قفزت في خياله كلمات مونخ:
"كنتُ أسير في أحد الأيام برفقة صديقَيّ وبدأت الشمس تغيب وفجأة تحوّل لون السماء إلى أحمر قانٍ. توقفتُ بعد أن شعرتُ بالتعب وأسندتُ جسمي على سياج. أكمل الصديقان سيرهما، وقفتُ وحيداً أرتجف من الخوف فشعرتُ أن صرخةً لا تنتهي تمرّ عبر الطبيعة".أحسّ الشاعرُ بأنه غيرُ قادر على الإمساك بموضوع ما. كل شيءٍ يفلتُ منه. في هذه اللحظة بالذات عند الانقلاب المفاجئ للنفس تتحول ذاكرته إلى ما يشبه الرماد. تذكر طفولته فوجدها بعيدة. أحس برجفة برد تسري في عظامه.أيكتب عن الموت؟ فكر الشاعر، وقال:لكي أكتب عن الموت ينبغي أن أحيا من جديد. الموت صيغة لتخيّل الزمن تحت تهديد مفاجئ. من بعيد يسمع الشاعر كلام الأموات، كان الهواء يحمل كلام أصدقائه الموتى وينثره في اتجاهات أربعة. كان الكلام متقطعاً، حزيناً، ومشوشاً. شعر بالصدمة، وقال:لن أفك هذا السحر حتى أجد الزهرة في فم الأفعى. ثم تذكّر أن جلجامش مات منذ عصور سحيقة.ظل الشاعر ينتظر إشارةً، دليلاً منقذاً في مفترق الطرق. قال الشاعر: سأكتب عن السفر.وقف الشاعر ينتظر القطار، لكي يلهمه الكتابة، قال:لن تأتي الكلمات طالما أقف هكذا مثل تمثال من رخام. ينبغي أن أتحرك، أن أحس بالضوء، أن أمشي في رواق طويل، أن أترك قدميّ تتنزهان وحدهما. تحسس الشاعر رأسه فوجده ثقيلاً، وعندما نظر في اتجاه القطار القادم، أحس بأن عينيه فارغتان تماماً.لأن الشاعر ما أن رأى الجموع الغفيرة، النازلة من القطار حتى تذكر مشهداً من فيلم قديم بالأبيض والأسود. تذكر مشهد القاتل الذي يرتدي معطفاً ويضع على رأسه قبعة، وهو ينزل من القطار، قال:لن أكتب إلا عنه. لكن الشاعر الذي وقف حائراً بين أحداث الفيلم، وما يراه الآن، أحسّ بالغضب، فقال:لقد خُدعتُ!. كانت عينا القاتل في الفيلم، كعيني من أصيب بخيبة أمل.أما هذا الذي ينزل الآن، فلا يبدو أن لديه ذرة ضمير.قال الشاعر: هناك كان يمكنني على الأقل أن أفتح ممر استعارةٍ لصرخة القتيل، أو للموت أو للسفر. عصفت في ذهن الشاعر عاصفة قوية. فقال:تخونني الكلمات، إنها لا تريد أن تخرج إلا بعد أن أدفع لها مقدماً، وأنا شاعرٌ موهوب لكنني مفلس. ثم تذكر الشاعر شيئاً، قال: لن تخرج هذه الكلمات، لكي أكتب عن قاتل. لقد كنتُ في السابق أكتب عن المقتولين عن الضحايا، فكيف إذن أكتب عن قاتل!قال الشاعر: هبط الليل ولم أكتب شيئاً، لأعد إلى بيتي، ربما لو كنت بين الجدران، سأحس بالنعومة، والهدوء. هناك أستطيع أن أصبح أسطورة ضائعة في الرمل. هناك سيرتطم رأسي بليل المسافات وأنا وحيد.هناك أيضاً يمكنني أن أصرخ، وأفكر بالرائحة البيضاء التي تشبه روائح الموتى.وسأكتب قصيدة عن الصرخة، صرخة القتيل في الفيلم وأربطها برحلة القطار، ثم إن الضحية بالتأكيد سيكون ميتاً، وبهذا أكتب قصيدة واحدة في هذه الموضوعات الثلاثة.
توابل - ثقافات
قال الشاعر
09-01-2013