قبل أن أنهي النصف الأول من رواية ساق البامبو لسعود السنعوسي كدت أصرخ بالأخوة الذين أثنوا كثيرا عليه ألا تصفقوا طويلا أمام شعلة هذا الإبداع كي لا تطفئوها، لكنني وجدت نفسي أصفق طويلا متجاهلا نصيحتي. عمل السنعوسي الأخاذ وحرصه الجميل على كتابة رواية هي إحدى العلامات الجميلة في الفضاء الروائي في الكويت هو جهد لا يستهان به، عمل من خلاله على صعيدين: البحث المضني في تفاصيل الثقافة التي لا نستورد منها سوى العمالة الهامشية ليعيشوا معنا في غيتو خاص بهم حتى وإن كانوا في منازلنا، والتقنية الروائية التي استفادت من هذه الثقافة دون الإخلال بعنصر السرد الفني. وبالتأكيد كان للمعايشة الباحثة عن تفاصيل التاريخ والأسطورة دورها المؤثر في إنتاج العمل.

Ad

بعيدا عن الإبداع التقني الذي نثني عليه في ابتكار الشكل الفني للرواية، التي من المفترض أنها كتبت بقلم فلبيني، وترجمت الى العربية بقلم مشابه يجيد اللغة العربية، كان القلم الذي يكتب الرواية يسير بها بثقة وقدرة بارعة في الأجزاء الثلاثة الأولى جعلتنا نرفع القبعة إعجابا وإطراء لشاب يكتب روايته الثانية وكأنه يختم تاريخا طويلا من الكتابة.

في الجزء الرابع من الرواية، وفي منتصفها تقريبا، تحول القلم الذي استخدمه الكاتب باتقان إلى كاميرا تصوير وآلة تسجيل، تضاعفت الصور وتكررت مونولوجات لا أريد القول إنها شوهت العمل الجميل السابق، لكنها أرهقته فترهل. ولو أن الرواية بدأت من هذا الفصل بقدوم عيسى الى الكويت لما قلنا عنها ما قلناه في مقدمة هذا المقال.

لم يستطع سعود السنعوسي المؤلف، والذي تلاشت هويته وصوته وآراؤه في الفلبين، تاركا السرد للراوي ومترجمه، أن يبقى كذلك حين بدأت رحلة عيسى الطاروف في الكويت. ورغم محاولات المؤلف الجادة للتخلص من أثره وتأثره فإن صوته كان واضحا في كل التفاصيل، وربما حتى في النزاع العائلي. عيسى الراوي أو القلم في النصف الأول من الرواية لا يمثل أكثر من ملتقط الصور التي يشير إليه المؤلف بالتقاطها، ويسجل الحوار الذي يرغب فيه المؤلف. منذ وصوله إلى الكويت وهو لا يلتقط إلا كل ما هو سلبي وغريب، ولا يصور لنا بكاميرته خلال سنتين من إقامته إلا البثور السوداء التي تطفو على وجه المجتمع، ليس لأن كل ما هو سلبي موجه ضده لكنه الآن ليس أكثر من أداة تصويرية أراد المؤلف من خلاله توثيق سلبيات المجتمع.

عيسى ومن خلال الأشهر الأولى يجد نفسه ضحية لنصاب يسرق منه أول عشرة دنانير يمتلكها من غسان البدون، يتابع الأطفال يرشقون الحافلات بالحجارة، يلاحقه رجل مثلي للنيل منه، يسكن بجوار مجموعة من المعربدين في رأس السنة، يعمل مع طباخين في المطعم يضيفون قذاراتهم لأكل الكويتيين، ويرى أن غسان البدون الذي أحضره إلى الكويت كان خائناً لصداقة الشهيد والده، لأنه تقدم لخطبة أخته. وانتهت رحلة عيسى من الكويت إلى الفلبين، وهذه أبرز الصور التي يحملها دون أن يرى أكثر من ذلك. يعتمد، وهو المسيحي النشأة والبوذي التأثر، على القرآن والحديث لإثبات أحقيته بمعاملة آدمية تليق بنسبه، وهو في الواقع لا يردد سوى صوت المؤلف.

كان سعود روائيا متمكنا في الجزء الأول، قبل أن يتحول إلى واعظ وصاحب رسالة اجتماعية أخلاقية لا تخلو من المباشرة والحشو السردي في الجزء الثاني من الرواية، الذي وددت لو منح الكاتب نفسه فرصة لإعادة كتابته.

كل ما ذكرته لا يلغي أن الجزء الأول من رواية سعود هو أجمل رواية كويتية أقرأها.