عودة أميركا

نشر في 25-01-2013
آخر تحديث 25-01-2013 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت كما هي العادة في بداية كل عام جديد، ترتفع الأصوات بإحصاءات وتوقعات مهيبة للاتجاهات في أنحاء العالم المختلفة. على سبيل المثال، من المتوقع بحلول عام 2016 أن تحل الصين محل الولايات المتحدة باعتبارها صاحبة أضخم اقتصاد على مستوى العالم. وبحلول عام 2040، سيبلغ عدد سكان الهند 1.6 مليار نسمة، لكي تتفوق بذلك على الصين التي سيكون الكساد تمكن منها قبل عقد من الزمان.

ولعل التوقع الأكثر إثارة للدهشة والذهول هو أن الولايات المتحدة ستصبح مصدرة للطاقة بحلول عام 2020، وستكتفي ذاتياً من الطاقة بعد خمسة عشر عاماً من ذلك التاريخ، نظراً للإمدادات الوفيرة من الغاز الصخري غير المكلف واكتشاف احتياطيات هائلة من النفط في كل مكان من نورث داكوتا إلى خليج المكسيك. وعلى الرغم من المعارضة من قِبَل جماعات حماية البيئة، فإن استغلال هذه الاحتياطيات سيكون أسهل من استغلال الاحتياطيات في أوروبا، لأنها تقع عموماً في مناطق ذات كثافة سكانية منخفضة.

ونتيجة لهذا فإن الطاقة ستكون أرخص إلى حد كبير في الولايات المتحدة مقارنة بأوروبا أو الصين في المستقبل المنظور، والواقع أن استخراج الغاز الصخري أيسر كثيراً من الناحية الاقتصادية حتى أن تكاليف الغاز الأميركي المصدر إلى أوروبا ستكون أقل بنسبة 30% مما تتقاضاه شركة الطاقة الروسية العملاقة "غازبروم" حالياً.

إن الطاقة الرخيصة تقدم حافزاً قوياً للصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة- من الصلب والزجاج إلى المواد الكيميائية والمستحضرات الصيدلانية- لإنشاء مواقع لها في الولايات المتحدة. والواقع أن انخفاض تكاليف التصنيع في أميركا، مقترناً بالبيئة التنظيمية المواتية للأعمال في البلاد، وسيادة القانون، والاستقرار السياسي، من شأنه أن يزيل الميزة التنافسية التي دفعت النمو الاقتصادي السريع في الصين على مدى العقود العديدة الماضية.

ومن ناحية أخرى، لا تزال الجامعات الأميركية قادرة على اجتذاب أفضل وألمع العقول في العالم في العديد من المجالات، وأبرزها العلوم والتكنولوجيا. وتظل البلاد محتفظة بميزاتها القديمة الأخرى- المرونة، والقدرة على التجديد، والحراك الاقتصادي، والقوة التنظيمية الدولية، والعملة الاحتياطية الرئيسية على مستوى العالم.

ونظراً لهذه الظروف المواتية، فق بدأت الولايات المتحدة بالفعل بـ"إعادة" صناعاتها إلى الديار، وهي العملية التي من المرجح أن تستمر لعدة عقود من الزمان. ومع تحول الاقتصادات المتقدمة الأخرى إلى الخدمات على نحو متزايد، فإن الولايات المتحدة ستعود إلى التصنيع.

وستعمل القيمة المضافة الناتجة عن هذا على دعم قدرة صانعي القرار السياسي على إيجاد حلول طويلة الأجل للمشاكل الملحة، بما في ذلك نظام الرعاية الصحية غير الفعّال، وقصور التعليم الابتدائي والثانوي، والظلم الاجتماعي الصارخ. والنجاح في هذه المناطق من شأنه أن يعزز من جاذبية أميركا باعتبارها مركزاً صناعياً.

كجزء من مشروع القدرة التنافسية الأميركية التابع لكلية إدارة الأعمال في جامعة هارفارد، نشر مايكل بورتر وجان ريفكين أخيراً خطة من ثماني نقاط، يمكن تنفيذها في غضون عامين إلى ثلاثة أعوام. والواقع أن كل التدبيرات المقترحة نجحت في توليد اتفاق واسع النطاق من كلا الحزبين بين صناع القرار السياسي (على الأقل خلف الأبواب المغلقة).

وتسلط الخطة الضوء على ضرورة الاستفادة من الفرص التي يتيحها الغاز الصخري والاحتياطيات النفطية المكتشفة حديثاً، ومن الممكن أن تساعد الطاقة المحلية المنخفضة التكاليف في خفض العجز التجاري، وتحفيز الاستثمار، والحد من تعرض أميركا اقتصادياً للدول المصدرة للنفط التي تتسم بالتقلب. وسيساعد تبني إطار تنظيمي فيدرالي قوي أيضاً في ضمان تحقيق هذه النتائج، في حين يعمل على تقليص المخاطر البيئية والمتعلقة بالسلامة فيما يتصل بعمليات الاستخراج.

وتشتمل مقترحات أخرى على تيسير هجرة الأفراد من ذوي المهارات العالية، خصوصاً خريجي الجامعات الأميركية؛ ومعالجة التشوهات في التجارة الدولية والاستثمار؛ ووضع إطار أكثر استدامة للموازنة الفيدرالية؛ وتبسيط الضرائب والقواعد التنظيمية؛ وإطلاق برنامج طموح لتنفيذ مشاريع البنية الأساسية. ومن خلال ملاحقة هذه الاستراتيجيات،سيكون بوسع الرئيس باراك أوباما استعادة مكانة أميركا باعتبارها محركاً للاقتصاد العالمي.

ولكن تنفيذ المقترحات الثمانية من شأنه أيضاً أن يزيد من اتساع فجوة الثروة بين الولايات المتحدة وأوروبا، والتي كانت في نمو مستمر طيلة العقود الثلاثة الماضية. فخلال الفترة 1980-2005، حقق اقتصاد الولايات المتحدة نمواً بمعامل 4.45، وهو المستوى الذي لم يقترب منه حتى أي اقتصاد أوروبي رئيسي. وفي عام 2011، كانت النرويج ولوكسمبورغ الدولتين الأوروبيتين الوحيدتين حيث نصيب الفرد في الدخل الوطني أعلى من نظيره في الولايات المتحدة من حيث القوة الشرائية. وبحلول عام 2040، فإن عدد سكان الدول الأوروبية سيكون إما قد بلغ مرحلة الثبات والانكماش (باستثناء المملكة المتحدة، التي سيبلغ عدد سكانها بحلول ذلك التاريخ نحو 75 مليون نسمة، مثل ألمانيا)، في حين سيكون عدد سكان الولايات المتحدة قد نما من 314 مليون نسمة اليوم إلى 430 مليون نسمة بحلول ذلك التاريخ.

وسيتردد صدى العواقب السياسية المترتبة على تجدد قوة الاقتصاد الأميركي في أنحاء العالم المختلفة، لكن الحفاظ على هذا الانتعاش الاقتصادي سيتطلب قدراً أعظم من العزوف عن التدخل في صراعات خارجية أو الانغماس في حروب جديدة.

والواقع أن إدراك هذه الحقيقة عمل بالفعل على تقليص دعم صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة لانتفاضات الربيع العربي: والشاهد على ذلك تردد أوباما في التدخل في ليبيا وعدم استعداده، على الأقل حتى الآن، لتوريط أميركا بشكل مباشر في الحرب الأهلية الدامية في سورية. ورغم تشبيه الأهمية التاريخية للربيع العربي في البداية بأهمية سقوط سور برلين، فإن المخاوف المتزايدة بشأن النفوذ السياسي المتزايد لجماعة "الإخوان المسلمين" أصبحت الآن طاغية على الإمكانات الإيجابية للتغيير في المنطقة.

على نحو مماثل، ورغم أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن علاقاتها الثنائية مع إسرائيل، فإن العلاقات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأوباما بلغت أدنى مستوياتها. وفي هذا السياق، فإن طرح مبادرة سلام كبرى من جانب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تحول إلى احتمال غير مرجح في المستقبل المنظور.

ومن ناحية أخرى، تناضل روسيا، منافسة أميركا في الماضي، من أجل استعادة هيمنتها على العديد من بلدان الاتحاد السوفياتي سابقاً. والأوضاع في إفريقيا وأميركا اللاتينية تسير عموماً نحو الاستقرار،

وفي ضوء كل هذا، فقد تحولت أولويات السياسة الخارجية الأميركية باتجاه منطقة آسيا والباسيفيكي، حيث التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية الأكثر إلحاحاً- بما في ذلك تهديد الصواريخ الكورية الشمالية وتصاعد التوترات بين الصين وجيرانها حول مزاعم السيادة المتنافسة في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي. وتبدو التحديات العالمية الأخرى صغيرة نسبياً بالمقارنة.

ورغم أن ثِقَل السياسة العالمية والاقتصاد العالمي، وبالتالي النفوذ العالمي، يتحول بشكل كبير من منطقة الأطلسي إلى منطقة الباسيفيكي، فمن الخطأ أن نقلل من الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في النظام العالمي الجديد. الواقع أن الولايات المتحدة لم تخرج قط من دائرة الضوء، وستستمر في الاضطلاع بدور قيادي رائد.

* ألفريد غوسنباور ، كان مستشاراً للنمسا أثناء الفترة 2007-2008.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top