لم يكن فهم أحداث الواقع في الشرق الأوسط سهلاً في يوم من الأيام. ولا يعود ذلك في المقام الأول إلى أنها تتبدل بسرعة، بل إلى الوقت والجهد والمال التي تخصَّص لمنع هذا الواقع من الظهور للعلن. فقد قتل 15 سعودياً 3 آلاف أميركي في اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر. لذلك أنفق السعوديون ملايين كثيرة لإقناع الأميركيين أنهم أصدقاؤهم وحلفاؤهم. كذلك صورت مصر نفسها خلال عهد حسني مبارك بصفتها نموذج الاستقرار. حتى إن البعض يحاولون إيهامنا أن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي لا يحتاج إلا إلى بعض الضغط الأميركي الحازم للحصول على تنازلات من الجانب الإسرائيلي قبل أن يعمّ السلام، لا في الأراضي الفلسطينية فحسب، بل في كل أنحاء الشرق الأوسط، الذي يعتبر هذا الصراع مشكلته الرئيسة.
واجهت حكومتنا أيضاً ظروفاً حرجة. فقد بذل جورج بوش الابن جهداً جباراً كي ينشر الأخبار الكاذبة عن حرب العراق التي نقلها إليه جنرالاته، وكي يصر على زيادة عدد الجنود لئلا نخسر الحرب. وعندما قدمت لنا إسرائيل عام 2007 أدلة على أن كوريا الشمالية تبني مفاعلاً نووياً في سورية لا يتصل بأي شبكة كهرباء ويبدو جلياً أنه جزء من برنامج عسكري نووي، اكتفت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بالإعلان أنها تملك "ثقة محدودة" بذلك لأنها لم تغفل عن هذا المفاعل فحسب، بل لم تستطع أيضاً تحديد أجزاء البرنامج الأخرى. وكم من وزير خارجية رأى في الرئيس السوري بشار الأسد "مصلحاً" محتملاً، وعبّر عن إعجابه بمبارك، واعتبر السلام الإسرائيلي- الفلسطيني "وشيكاً" جداً!نظراً إلى كل ما تقدم، لا عجب في أننا لا نفهم الواقع الذي نواجهه في سورية. يشمل هذا الواقع هزيمة مذلة للولايات المتحدة على يد إيران و"حزب الله"، بمساعدة روسيا، هزيمة تزعزع كل حلفائنا ونفوذنا في الشرق الأوسط وتضعفهم، وتزيد أسوأ أعدائنا جرأةً، وتترتب عليها تداعيات جيو- سياسية بالغة الأهمية.لا شك في أن المقاربة "الحذرة" التي تتبناها إدارة أوباما لا تمت إلى الواقع بصلة (هذا هو الخبر الجيد الوحيد) وتلقى الدعم من عدد متضائل من المؤيدين. ويمكننا تلخيصها كما يلي:"تشكّل سورية مأساة إنسانية، ولكن ما من أجوبة جيدة. فالوضع بالغ التعقيد: يتألف الثوار من مجموعات كثيرة مختلفة ومختلطة تضم آلاف المجاهدين. فكيف يمكنك أن تدعم منح السلاح لهذا الطرف؟ يقوم الحل هنا على إقناع الروس بضرورة رحيل الأسد ومساعدتهم على خروجه من السلطة بهدوء. لا تزال المناقشات مع الروس بهذا الشأن مستمرة. لكثير من الدول مصالح في سورية، ويجب موازنتها. سيتحول التدخل الأميركي إلى كابوس. فيتمتع السوريون بنظام دفاع جوي متقدم، وقد نخسر الطائرات والطيارين. وفي النهاية ستعمّ الفوضى سورية. في مطلق الأحوال، ما الأساس القانوني الذي نملكه للتدخل من دون الحصول مسبقاً على قرار من مجلس الأمن؟".من الوقائع التي يبدو أن الإدارة تتخبط معها تأثير مليون لاجئ (عدد قد نصل إليه خلال الأشهر القليلة المقبلة) في الأردن. قد يحرج استخدام الأسد المزيد من الأسلحة الكيماوية أو شن إسرائيل غارات جوية إضافية الرئيس الأميركي ويدفعانه إلى التحرك. ولكن حتى اليوم، يبدو أن لا شيء (ولا حتى الثمانين ألف قتيل والمليون ونصف المليون لاجئ، فضلاً عن الملايين الذين خسروا بيوتهم داخل سورية) يؤثر فيه.لنتأمل الآن مقاربة إيران- "حزب الله" إلى نقل الأسلحة والمقاتلين، في حين أن روسيا تؤمن الحماية في مجلس الأمن: لا يأبه هؤلاء بالكارثة الإنسانية. فالانتصار همهم الأول والأخير.إليكم خلاصة جيدة عن الوضع الراهن: قرروا الفوز، أما نحن فلا.قد تؤكد الأصوات "الحذرة" أن "الانتصار" فكرة سخيفة في الإطار السوري اليوم. لكنه ليس كذلك بالنسبة إلى "حزب الله" وإيران. فهما يعتبران أن انتصارهما يقوم على بقاء الأسد في السلطة. ويبدو أن الأمور تسير لمصلحتهما حتى اليوم. فلم يعتقد كثيرون (وأنا منهم) أن النظام سيصمد طويلاً. إلا أن هذا الخطأ في الحسابات يعود إلى الاستخفاف باستعداد إيران و"حزب الله" لتبني الصراع في سورية، مرسلَين كميات هائلة من الأموال والأسلحة، فضلا عن إرسالهما آلاف المقاتلين. ثمة خطأ آخر في حساباتنا: فقد ظننا أن ارتفاع الحصيلة الإنسانية، وتنامي الخطر الذي يهدد استقرار الأردن، وانتهاك الخط الأحمر الذي رسمه أوباما بشأن الأسلحة الكيماوية، والدور المباشر الذي تلعبه إيران و"حزب الله"، ستدفع إدارة أوباما إلى اتخاذ خطوات جدية. لكن هذه الخطوات لا تزال للأسف بعيدة المنال حتى اليوم. لا بد من أن حرس الثورة الإسلامية الإيراني و"حزب الله" تساءلا عما إذا كنا سنقبل بإرسالهما بعثات مقاتلة إلى سورية، وهذا ما يفعلانه اليوم. ولا شك في أنهما حصلا على الجواب: لقد قبلنا بذلك.يشكل ذلك ما يمكننا وصفه بعقيدة خامنئي ويذكرنا بعقيدة بريجنيف. إذا كنتم أصغر سناً من أن تتذكروا، قال بريجنيف ما يلي في شهر نوفمبر عام 1968 في بولندا: "يؤثر إضعاف أي وصلة في النظام الاشتراكي العالمي مباشرةً في كل الدول الاشتراكية. لذلك يجب ألا نتغاضى عن أمر مماثل".تفوه بريجنيف بهذه الكلمات بعد ثلاثة أشهر من غزو الاتحاد السوفياتي تشيكوسلوفاكيا. وكان معناها واضحاً: لا أحد ينسحب من حلف وارسو ولا من المعسكر السوفياتي. لنستبدل اليوم السوفيات بالشيعة. فتكون بذلك عقيدة خامنئي أن البلد الذي يشكل جزءاً من نظام الأمن الإيراني، أو ما دعاه العاهل الأردني الملك عبدالله ذات مرة "الهلال الشيعي"، يبقى في ذلك النظام، مهما كلّف الأمر. وهذا ما يعنيه الانتصار بالنسبة إلى إيران.فهل نرضى بذلك، علماً أن هذه ليست اليوم عقيدة قوة عظمى عالمية تملك ترسانة نووية، بل عقيدة دولة من العالم الثالث تضم 75 مليون نسمة؟ ترغمنا الوقائع على الإجابة: "ربما".لا يعاني آية الله في إيران من مشكلة فهم الواقع مثلنا. فهو يعي جيداً أن خسارة سورية ستشكل خسارة كبرى بالنسبة إليه. لذلك سيبذل قصارى جهده ليحول دون ذلك. هذا بيت القصيد. ما من تردد أو قلق بشأن الكلفة والمخاطر، بشأن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وقراراته، أو بشأن الكارثة الإنسانية. يريد أن يحقق النصر، ويدرك جيداً أن نتيجة هذا الصراع بالغة الأهمية.في المقابل، تبدو سياستنا بشأن سورية مبنية على الأماني، والخطابات، والمخاوف، وتفادي المخاطر، والاعتبارات السياسية، والمؤتمرات. فلا عجب، إذن، في أننا نخسر، وستستمر خسارتنا إلى أن يفهم الرئيس ووزير خارجيته أن نتيجة الحرب في سورية بالغة الأهمية، وأن العالم بأسره بحلفائنا وأصدقائنا وأعدائنا يراقب عن كثب ويقيّم مقدار فهمنا وعزيمتنا، فيقرران الانتصار.* إليوت أبرامز | Elliott Abrams ، باحث بارز في دراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية
مقالات
عقيدة بريجنيف على الطراز الإيراني
02-06-2013