لست من الإخوان ولا من المؤيدين لطروحاتهم السياسية، لكني تمنيت نجاح تجربتهم في الحكم في تحقيق أهداف الثورة وترجمة تعاليم الإسلام في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع لتقديم نموذج لـ"دولة مدنية" تستلهم قيم ومبادئ الإسلام، كان الرهان عليهم كبيراً كونهم على امتداد 85 عاماً يدعون وينشطون في الساحة باعتبارهم الفاقهين لصحيح الدين من غير إفراط ولا تفريط، الساعين إلى إصلاح المجتمعات وتربية الفرد تربية أخلاقية، وهم أصحاب رسالة عالمية للبشرية جمعاء، المؤهلون لـ"أستاذية" العالم، وأنهم لو حكموا فعندهم الحلول الناجعة لمشكلات المجتمعات المعاصرة على هدي الإسلام.
استجابت السماء لمطالبهم وحققت حلمهم التاريخي الطويل، وقررت أن تضعهم أمام اختبار الحكم، لكن الحكم في الإسلام مسؤولية وأمانة، وهي أمانة دينية كبرى قبل أن تكون مسؤولية سياسية، والإخوان خير من يدركون ويرددون مقولة رسولنا عليه الصلاة والسلام لأبي ذر عندما طلب الولاية "إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة"، كان "الشاطر" مرشح الإخوان الأصلي للرئاسة ثم رشحوا بديله د. محمد مرسي، وهو رجل طيب وذو خلق، حاز ثقة الجماهير فاختارته لقيادة مصر والعبور بها إلى آمالها وتطلعاتها. وتعهد مرسي أمامها بتحقيق أهداف الثورة، لكن خلال عام واحد تراجعت مصر إلى الوراء، وتدهورت المرافق والخدمات وأصبحت طاردة للكفاءات والسياحة والاستثمارات، تتسول القروض والمساعدات، وانحسر دورها الإقليمي، وتعرض أمنها الوطني للتهديدات، وتبددت الآمال وانكشفت القيادة وبان عجز الحكومة، فلم يستطع المصريون الصبر على حكم الإخوان أكثر من سنة مع أنهم عرفوا بالصبر قبل سنين!خرجت الجماهير عن بكرة أبيها، وشهد ميدان التحرير والشوارع الموصلة إليه حشوداً بشرية لا سابق لها على وجه المعمورة، قدرت بين 17– 30 مليوناً بحسب "غوغل إيرث" جاؤوا ليقولوا لرئيسهم المنتخب: نزعنا شرعيتك فارحل، لكنه أبى وتمسك بأنه صاحب الشرعية، وأن دمه ثمن لها، ولن ينزع قميصاً ألبسه إياه الشعب بانتخابات حرة، في استدعاء تاريخي لمقولة سيدنا عثمان في وجه الثوار: لن أخلع قميصاً ألبسنيه الله. وكان لا بد لجيش مصر العظيم أن يحسم الموقف، وينحاز للشعب فتدخل بحكمة واقتدار، وأسدل على حكم الإخوان الستار، لكن الصدمة كانت بالغة الشدة على الإخوان في كل مكان، فقد ضاعت الفرصة التاريخية وتبدد الحلم، لقد أعطوا ملكاً لم يحسنوا إدارته، ووسّدوا الأمر إلى أهل الثقة من عشيرتهم وأبعدوا أهل الكفاءة، وخاصموا الجميع: القضاء والأزهر والكنيسة والإعلام والثقافة والفن، وفرقوا بين أبناء المجتمع الواحد بمعيار الدين والمذهب والحزب. تصاعدت نزعات الكراهية والتعصب والعنف والطائفية في عهدهم، وتأججت العداوات بين أطياف المجتمع، فكرّهوا الشعب بسياساتهم، فاتحد الجميع ضدهم حتى حليفهم السلفي انقلب عليهم. اليوم: ليس أمام الإخوان إلا العودة للعمل بين الجماهير، بعد تصحيح مسارهم ومراجعة عثراتهم والإفادة من دروس تجربتهم "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم". على الإخوان أن يقفوا اليوم وقفة شجاعة وموضوعية مع أنفسهم، ليفعلوا منهج "نقد الذات" مصداقاً لقوله تعالى "أولما أصابتكم مصيبة، قد أصبتم مثليها، قلتم أنّى هذا، قل هو من عند أنفسكم"، وقوله تعالى "وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، وعلى الإخوان الاعتراف بمسؤوليتهم عن القصور والإخفاق والكف عن لوم الآخرين وتحميلهم المسؤولية، وترديد أوهام التآمر الداخلي والخارجي.إن الإخوان والجماعات الإسلامية كافة مطالبون اليوم بإعادة ترتيب بيتهم الداخلي بعد هذه الانتكاسة الكبيرة التي ستكون لها انعكاسات وتداعيات على كل حركات الإسلام السياسي في المنطقة، وعلى مجمل العمل الإسلامي، ولا تصحيح بدون مراجعة، ولا تقدم بدون تعديل وتقويم.الآن: ما الدروس المستفادة من تجربة الإخوان القصيرة في حكم مصر؟أولاً: افتقاد القدوة الدينية والأخلاقية: الحزب المنتسب إلى الإسلام في السلطة مطالب أكثر من الأحزاب الأخرى بالعنصر الديني الأخلاقي، فالجماهير التي تعطي صوتها لقيادات سياسية دينية تتوقع منها أن تكون "قدوات أخلاقية" عليا أكثر من أن تكون مجرد قيادات سياسية. صحيح أن هذه القيادات تلتزم آداب وتعاليم الدين على المستوى الشخصي، لكن الجماهير تريد أن تكون سياسات وتصرفات هذه القيادات على المستوى العام في الشأن المجتمعي، متفقة مع المعايير الدينية والأخلاقية، تريد منها أن تكون صادقة في قراراتها وتصرفاتها العامة، فلا تقول شيئاً وتفعل عكسه، ولا تعد الناس وعوداً ولا تحققها. الإخوان خلال سنة الحكم قدموا العشرات من الوعود والعهود، ثم نقضوها أو لم يحققوها، رفعوا شعار المشاركة لا المغالبة، ونكصوا عنه، صرحوا بقبولهم للآخر وإيمانهم بالديمقراطية وتداول السلطة، وتراجعوا فور بلوغهم السلطة، تظاهروا باحترامهم أحكام القضاء ثم تدخلوا في القضاء وأرهبوا القضاة وحاصروا دور العدالة. إن أسوأ الآفات التي تصاب بها الحركات الإسلامية هي "ضعف المصداقية"، واحتزازها في نفوس الجماهير، ولذلك أتفق مع ما ذهب إليه د. وحيد عبدالمجيد في مقالته القيمة "انتفاضة مصرية ضد سياسة لا أخلاقية" في الاتحاد الإماراتية، إذ يقول "لم يكن ممكناً أن يخرج الملايين لسحب الثقة من رئيس بعد عام على انتخابه، إلا لثقتهم في أن سلطة هذا الرئيس وجماعة الإخوان، تفتقد الحد الأدنى من المقومات الأخلاقية التي يتعذر أي إصلاح في غيابه"، ويضيف أيضاً "لقد ضلوا على مدى عقود يزعمون السعي إلى بناء الإنسان الصالح أخلاقياً وروحياً، قبل انكشافهم حين لن يتمكنوا من تجنب شر السلطة ونقمتها على من لا يمتلك المناعة الكافية".ثانياً: التفسير الخاطئ للتفويض الشعبي: ظن الإخوان أن التفويض الشعبي الممنوح لهم عبر الصندوق الانتخابي يعطيهم الحق المطلق في الانفراد بالقرار والاستفراد بالسلطة والزحف على مؤسسات الدولة، عبر سياسة "التمكين السريع" والاستحواذ على كل مفاصل الدولة ومناصبها العليا وإقصاء القوى الوطنية والشبابية التي قامت بالثورة. أصدر الرئيس مرسي "إعلاناً دستورياً" حصن قراراته ضد نظر القضاء، كما حصن الجمعية التأسيسية للدستور ومجلس الشورى، ومرر دستوراً لا يليق بمكانة مصر الحضارية ودورها العريق، وفرض على القضاء نائباً عاماً غير شرعي، وحاصر أتباعه المحكمة الدستورية العليا، وأراد تمرير قانون للسلطة القضائية بهدف عزل 4 آلاف قاض، وفرض على الثقافة وزيراً مكروهاً. لقد أفزعوا الجميع واستعدوهم، ولم يكن بوسع الشعب ومؤسسات الدولة المدنية العريقة تحمل خطة الإخوان الإقصائية الهادفة إلى سياسة "الأخونة"، فكان الصدام حتمياً وسريعاً طبقاً لعبدالمنعم سعيد، وإلى مقالة قادمة لاستكمال بقية الدروس المستفادة.* كاتب قطري
مقالات
دروس من تجربة إخوان مصر (1)
15-07-2013