بعد أن عملت في رسم مسيرة السلام العربية-الإسرائيلية وتحليلها طوال أكثر من 40 سنة، كان رد فعلي الأول تجاه احتمال نجاح وزير الخارجية الأميركي جون كيري في حمل الإسرائيليين والفلسطينيين على استئناف المحادثات سلبياً، كما هو متوقع. فقد يدفع كيري بالطرفين إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات، إلا أنه سيعجز عن إبقائهما جالسين، فكم بالأحرى التوصل إلى اتفاق؟

Ad

في المرة الأخيرة التي شاركتُ فيها في هذا الفيلم (قمة كامب ديفيد التاريخية في شهر يوليو عام 2000)، بدت الظروف أفضل مما هي عليه اليوم، فقد شمل الممثلون الرئيسيون رئيس وزراء إسرائيلياً كان أكثر ميلاً للمخاطرة فيa المسائل الكبرى مقارنة بأسلافه، وقائداً فلسطينياً ترأس حركة وطنية وتمتع باحترام شعبه، ورئيساً أميركياً ملتزماً أعرب عن اهتمام حقيقي بهذه القضية. رغم ذلك، أخفقت هذه الجهود، ما أدى إلى أسوأ موجة عنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ نصف قرن.

لكن الأوضاع تبدو اليوم أكثر تعقيداً، فالفجوات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس في المسائل الشائكة الجوهرية (مثل مصير القدس وقضية اللاجئين الفلسطينيين) شاسعة، فلا يثق أحد القائدين بالآخر كثيراً، فضلاً عن أنهما يواجهان سياسات داخلية شرسة تمنعهما من الإقدام على مخاطرات كبيرة.

إذن، ماذا يحدث هنا؟ لمَ يظن وزير خارجية أميركي ذكي وماهر لديه أولويات أخرى أكثر إلحاحاً أنه يستطيع تحقيق ما عجز عنه كل أسلافه؟ هل يعود ذلك إلى غروره وأوهامه أم أن هذا مثال آخر عن اعتقاد الإدارة الأميركية بسذاجةٍ أنها تستطيع لعب دور الوسيط في صراع تاريخي، تماماً كما ظنت إدارة جورج بوش الابن أنها قادرة على تحويل الأمم؟

من الممكن أن تنهار مسيرة كيري للسلام بسهولة، ولكن إليكم خمسة عوامل تعلل استعداد وزير الخارجية هذا لتحدي كل الظروف ولمَ يجب ألا نسارع إلى الحكم على مساعيه بالفشل:

الفوضى عامة

قد تؤدي الصحوة العربية إلى ديمقراطيات بمرور الوقت، إلا أن الصراع بين الإسلاميين، والقوات العسكرية، وعناصر الأنظمة السابقة، والحركات الليبرالية غير المنظمة لم تسفر حتى اليوم إلا عن صراعات طائفية وحكم سيئ. فنرى سورية تتخبط وسط حرب أهلية، فيما تغرق مصر في بحر من المشاكل السياسية، أما العراق، فيهتز نتيجة موجة من العنف وتآكل الديمقراطية.

لكن الوضع في إسرائيل والأراضي الفلسطينية يبدو هادئا على نحو غريب، فلا نرى أيا من علامات الربيع العربي، وقد انتُقد كيري لتركيزه على صراع محدد، في حين أن معظم أجزاء الشرق الأوسط تشتعل، ولكن إذا أخذنا في الاعتبار نسبة المخاطر إلى المكافآت في التدخل في سورية، نلاحظ أن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يقدم رهاناً أكثر أماناً وربما أذكى. ولا شك أن هذه المسألة الوحيدة في المنطقة التي تتلاقى فيها مصالح الولايات المتحدة وقيمها مع أمر آخر: احتمال أن تحقق الدبلوماسية الأميركية تقدماً.

من المؤكد أن السلام الإسرائيلي-الفلسطيني لا يُعتبر مفتاح الاستقرار في الشرق الأوسط، ولكن إن شهد هذا المحور تقدماً جدياً أو جرى التواصل إلى اتفاق جزئي، فسيحسن ذلك صورة الولايات المتحدة، يساعدها في حماية مصالحها، ويبعد عن إسرائيل أزمة خطرة، ويسهل قيام دولة فلسطينية لشعب بائس يعاني دون دولة منذ زمن طويل.

الدول العربية

تعلم كيري درساً مهماً من جهود السلام الأميركية السابقة، فبات يدرك أنه يحتاج إلى الدول العربية لمساعدة الفلسطينيين على تقديم التنازلات والتواصل مع الإسرائيليين.

في قمة كامب ديفيد عام 2000، لم نضع خطة جدية للتعاون مع الدول العربية، وفي وقت متأخر من المفاوضات، حاول الرئيس الأميركي بيل كلينتون إقناع الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل السعودي الملك عبدالله الثاني، اللذين لم يكونا على اطلاع على مجريات الأحداث، بتفاصيل ما كانت إسرائيل والولايات المتحدة تعرضانه بشأن القدس. لكن هذا العرض لم يلقَ الاستحسان، ولن تنجح أي تسوية بالتأكيد من دون دعم الدول العربية في مرحلة باكرة من العملية.

يعتقد كيري أنه يتمتع بعلاقات جيدة مع العرب، وأنه، إذا تمكن من استثمار هذه العلاقات باكراً، يحظى بدعم الدول العربية على مستوى عملي ورمزي، فقد سبق أن نال موافقة جامعة الدول العربية العامة على عملية تبادل الأراضي، التي تتيح لإسرائيل الاحتفاظ بأراضٍ في الضفة الغربية تضم مستوطنات رئيسة مقابل منح الدولة الفلسطينية أراضي أخرى. كذلك نجح كيري أخيراً في عمان في الأردن في حمل العرب على إصدار بيان جديد يدعم استئناف مفاوضات السلام.

كيري الممتلئ حيوية

يُعتبر كيري القوة الدافعة وراء هذه المحادثات الأخيرة، فقد قام بست رحلات ترتبط بمسيرة السلام في غضون أربعة أشهر، كذلك تعمد تجاهل الخبراء والرأي السائد عن أن مسيرة السلام قد ماتت، ووضع نفسه ومصداقيته على المحك بالسعي بشكل حثيث لاستئناف المفاوضات، وقلما نرى جهوداً مماثلة من وزير خارجية أميركي. قد يكون كيري مخطئاً (تماما مثل الرئيس كلينتون) في اعتقاده أن قوة شخصيته وعلاقاته مع نتنياهو وعباس قد يؤديان إلى اتفاق.

لطالما اعتبر كيري السلام الإسرائيلي-الفلسطيني من مصالح الولايات المتحدة المهمة، كذلك يدرك أن احتلاله مكانة مهمة كوزير خارجية يعتمد على تبنيه مسألة صعبة وحلها. ويبدو أكثر استعداداً للمخاطرة من سلفه، وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي لا تزال مسيرتها السياسية في بداياتها، ومع تحمل أوباما عبء الكثير من الأزمات المحلية والشرق أوسطية، ما عاد أمام الرئيس أي خيار غير منح كبير دبلوماسييه صلاحيات أكبر، فاتحاً أمامه الطريق ليحاول حل إحدى القضايا الشائكة.

لكن هذا التقدم ليس من صنع رجل واحد، فقد حظي كيري بالمساعدة من نتنياهو وعباس، اللذين يشعران بالقلق حيال ما قد يحدث على الأرض وحيال تعرضهما للوم شخصياً، في حال أخفقت هذه الجهود. والأهم من ذلك أن نتنياهو قد ألمح لكيري على الأرجح أنه مستعد للتفاوض على أساس حدود يونيو عام 1967 وتبادل الأراضي، ولربما عبر عباس أيضاً عن استعداده للاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية. صحيح أن أيا من هذين القائدين لن يعبر عن ذلك علانية أو أحدهما للآخر، لكنهما قد يسمحان لكيري بإعلان هذه التفاصيل على اعتبار أنها الأسس الأميركي للتفاوض.

إعادة ضبط العلاقات الأميركية-الإسرائيلية

ما كان كيري سيتمكن من الاقتراب إلى هذا الحد من استئناف المفاوضات من دون عملية إعادة ضبط واسعة للعلاقة الأميركية-الإسرائيلية، فضلا عن جهوده لتعزيز علاقته بنتنياهو. عندما زار أوباما إسرائيل هذه السنة ليبدد المفهوم السائد عن أنه معادٍ لهذه الأمة، لربما كان هذا القرار عاماً. فكان خلافه مع إسرائيل يؤذيه سياسياً، وإن كان يرغب في إدارة المسألة النووية الإيرانية بفاعلية، فعليه أن يعزز علاقاته بنتنياهو.

لكن تقرب كيري من نتنياهو يعود أيضاً إلى واقع أن حمل إسرائيل على اتخاذ قرارات صعبة يتطلب الترغيب كما الترهيب. علاوة على ذلك، يفهم كيري نتنياهو كسياسي ويمكنه التعامل معه بحرية، تماماً مثل كلينتون. وإن تمكن كيري من الحصول من رئيس وزراء ينتمي إلى الليكود (وإن وراء الأبواب الموصدة) على قبول بحدود يونيو 1967 كإطار عمل للمفاوضات، لا كنقطة تفاوض تكتيكية، يكون قد حقق نجاحاً كبيراً.

نتنياهو الجديد؟

يبدو نتنياهو أحياناً قائداً في حرب مع نفسه: فيتعارض هذا السياسي الذي ينتمي إلى الليكود بخطابه القاسي مع ذلك الرجل الذي يسعى لإبعاد إسرائيل عن خطر القنبلة الإيرانية ولإحلال السلام مع جيرانه. ولكن خلال مسيرته السياسية الواسعة، كان تأثير الجماعة أقوى عموماً من صورة القائد الجريء صاحب الرؤية المميزة.

ولكن هل يتبدل نتنياهو؟ وهل هو قادر على التبدل؟ بخلاف المعتاد، راح في الآونة الأخيرة يتحدث كسياسي غير راضٍ عن الوضع الراهن. ففي رد فعل تجاه إعلان كيري، أصدر نتنياهو بياناً وصف فيه عملية السلام كوسيلة للحؤول دون تطبيق حل الدولة الواحدة، الذي قد يهدد مستقبل إسرائيل كأمة يهودية. في الماضي، قلما أشار نتنياهو إلى مدى إلحاح عملية السلام أو تحدث عن الأوضاع السكانية في إطار محادثات السلام. ولا شك أن التزامه بإطلاق سجناء فلسطينيين قتلوا إسرائيليين، فضلاً عن أي وعود ربما قطعها لكيري بشأن الحدود، يعكس جدية غير مسبوقة في التعاطي مع هذه المسألة.

يبرع نتنياهو في رسم التكتيكات والمناورات؛ لذلك من الممكن أن يسيء كيري فهم دوافع رئيس الوزراء، وربما يظن نتنياهو أن إبقاء الأميركيين سعداء بشأن عملية السلام يساعد واشنطن في القبول بهجوم إسرائيلي على إيران، إن باتت هذه الخطوة ضرورية. وربما يعول نتنياهو على الفلسطينيين لإفشال هذه العملية برفضهم مطالبه في مجالَي الأمن واللاجئين، مطالب يدرك أن الولايات المتحدة ستدعمها على الأرجح.

ولكن كلما مضى رئيس الوزراء الإسرائيلي قدماً في عملية المفاوضات، ازداد احتمال خروج بعض أعضاء حزبه وشركائه في الائتلاف اليميني من حكومته. فقد ترك رئيس الوزراء السابق أرييل شارون حزب الليكود عام 2005 ليؤسس حزبه الخاص بعد سحبه القوات الإسرائيلية والمستوطنين من قطاع غزة. إذن، لا يعتمد صنع السلام في إسرائيل تاريخياً على اليسار بل على الصقور المتحولين، على قادة مثل مناحيم بيغن وإسحق رابين وشارون الذين خاطروا بتقربهم من جيرانهم العرب. فهل يكون نتنياهو التالي؟ من الواضح أن كيري لا يستبعد ذلك.

لا تبدو الظروف مؤاتية للتوصل إلى اتفاق ينهي هذا الصراع. رغم ذلك، يجب ألا نحكم مسبقاً على جهود كيري، فقد أعرب عن إرادة قوية ومهارة كبيرة حتى اليوم. وربما تكون الأوضاع على الأرض قد تبدلت كثيراً لتحقيق تقدم نحو صفقة بشأن الحدود والوضع الأمنية، ولا شك أن هذا رهان يستحق العناء.

أقول ذلك وأنا أدرك تماما أن الفشل قد تترتب عليه عواقب بالغة السوء، لكن هذا ينطبق أيضا على الوقوف مكتوفي الأيدي.

* آرون ديفيد ميلر | Aaron David Miller ، نائب الرئيس وباحث بارز في مركز "وودرو ويلسون" الدولي، وعمل محللاً لشؤون الشرق الأوسط ومستشاراً ومفاوضاً في وزارات الخارجية الأميركية الجمهورية والديمقراطية بين عامَي 1978 و2003.