ثمة مثل مصري شعبي يعبر بصورة بليغة عن طبيعة العلاقات الراهنة بين القاهرة وطهران؛ المثل يقول "لا أحبك، ولا أقدر على بعدك".

Ad

كتبت في هذه الزاوية قبل أربعة أشهر متوقعاً ألا تنجح محاولات لإحداث تقارب بين العاصمتين في أعقاب وصول مرسي إلى سدة الرئاسة، وإعلانه عن زيارته لطهران، ليكون أول رئيس مصري يزور إيران.

وقد أشرت إلى أن العلاقات المصرية- الإيرانية تمثل حالة فريدة في العلاقات الدولية؛ إذ تم رهنها على مدى أكثر من ثلاثة عقود متتالية بمواقف الحلفاء والأعداء بأكثر مما كانت موضوعاً لتحقيق المصلحة المباشرة للبلدين.

يبدو أن هذا التحليل ما زال قادراً على تفسير طبيعة العلاقات المصرية- الإيرانية رغم التغير الجوهري الحاد الذي طرأ على المشهد السياسي المصري، في أعقاب ثورة يناير.

نظرياً، لا توجد منازعات حدودية بين البلدين بالتأكيد؛ إذ يبعدان عن بعضهما آلاف الأميال، وليس بينهما تاريخ من العداء أو الحروب؛ باستثناء الغزو الفارسي لمصر قبل بضعة آلاف سنة، ورغم تمثيل إيران للإسلام الشيعي منذ ثورتها الإسلامية في 1979، فمصر ليست الدولة الأكثر قلقاً من ذلك المد المذهبي، بالنظر إلى بعدها عن مجال التأثير الحيوي الشيعي من جهة، وامتلاكها مرجعية الأزهر الشريف من جهة أخرى، وميراثها الحضاري المهم في "التقارب السني- الشيعي" من جهة ثالثة.

عملياً، هناك عوامل كثيرة يمكن أن تعزز التقارب المصري- الإيراني في المرحلة الراهنة؛ فثمة نظام ذو سند إسلامي يحكم في مصر الآن، بل هو نظام يحاول، رغم الافتراق المذهبي، أن يستنسخ بعض ملامح "الحكم الديني" في الجمهورية الإسلامية ليطبقها في مصر؛ سواء عبر الدستور الذي عزز هيمنة "التصور الديني للدولة والمجتمع"، أو تفعيل محاولات "تطبيق الشريعة"، أو السيطرة على المناصب التنفيذية والسلطة التشريعية وبقية مراكز النفوذ من خلال أعضاء في الجماعة الدينية الغالبة وحلفائها.

الأهم من ذلك، أن إيران تحاول أن تقدم تجربة في مجال "التحرر الوطني"، و"التنمية المستقلة"، و"التصنيع العسكري الناجح"، و"التوسع الإقليمي باسم الدين"، ومقارعة "المشروع الصهيوني- الأميركي"، و"امتلاك أكبر رمز للقوة في الوقت الراهن... القنبلة النووية"، وكلها بالطبع أهداف يمكن أن تكون، بـ"إعادة صياغة بسيطة" أهدافاً لجماعة "الإخوان المسلمين" التي تحكم مصر الآن.

لقد دعمت إيران "حزب الله" الذي ينظر إليه معظم المصريين على أنه "المقاومة الإسلامية اللبنانية للعدوان الإسرائيلي"، وساعدته في "إلحاق الهزيمة بإسرائيل في عدوان يوليو 2006"، كما دعمت "حماس"، وساعدتها على الصمود في وجه "العدوان الإسرائيلي على غزة في ديسمبر 2008 ويناير 2009"، فضلاً عن عدائها الكبير للولايات المتحدة، وحرصها على صيانة "الكبرياء الوطنية" عند التعاطي معها، وهي كلها عوامل تجعل من الاقتراب الإخواني من إيران مشروعاً مرحباً به بين قطاعات في الجمهور المصري.

حينما سقط نظام مبارك، الذي أمعن في مخاصمته لإيران وتجاهلها على مدى ثلاثة عقود، حرص وزير الخارجية في أول حكومة يتم تشكيلها بعد الثورة الدكتور نبيل العربي على الحديث عن ضرورة تطوير العلاقات مع إيران؛ وهو الأمر الذي لاقى استحساناً كبيراً في أوساط النخب المصرية أيضاً بأطيافها المختلفة.

تريد النخب والجمهور أيضاً في مصر التخلص من السياسة التي اتبعها مبارك إزاء الإيرانيين، ولا يبدو أن هناك تفهماً لمواقف الرئيس المُطاح تجاه إيران، التي اتهمها مراراً، هو وأجهزته الأمنية، بـ"دعم الإرهاب"، و"محاولة تصدير الثورة ونشر التشيع"، وأخيراً بمحاولة نشر عدم الاستقرار في المنطقة عبر "الشيعة العرب الذين يعطون ولاءهم لإيران وليس لبلدانهم"، كما قال في مقابلة شهيرة أثارت جدلاً ودهشة كبيرين.

سيكون تطوير مرسي العلاقات مع إيران إذن خطوة إيجابية من وجهة نظر الجمهور والنخب في مصر؛ إذ يعتبر الرأي العام المصري أن إيران دولة مهمة في الإقليم ومن الضروري جداً عقد علاقات جيدة معها.

الإيرانيون من جانبهم لم يفوتوا فرصة واحدة للتعبير عن رغبتهم الكبيرة في تحسين العلاقات مع مصر، وهو أمر لم يتوقف لحظة واحدة منذ إطاحة مبارك، حين تدافعت الآمال في تطوير العلاقات بعد التخلص من العقبة التي مثلها نظامه، وبعد وصول "الإخوان" إلى سدة الحكم في البلاد.

لقد ذهب مرسي إلى إيران بالفعل، لكنه اختصر زيارته إلى أقصى درجة ممكنة، وعندما ألقى كلمته من فوق منصة مؤتمر قمة عدم الانحياز، التي انعقدت في طهران نهاية أغسطس الماضي، اختار أن "يترضى على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، كما اختار أن يهاجم نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

لاقت كلمة مرسي تجاوباً وترحيباً شديدين من جمهور وقادة سياسيين في الخليج العربي، كما لاقت استحساناً من قبل قطاعات من المصريين الذين يحبون الترضي على صحابة رسول الله في أي محفل، أو الذين يعارضون بشار الأسد، وما أكثرهم بالطبع، لكنها لم تخدم مسار تطور العلاقات المصرية- الإيرانية.

لم ييأس الإيرانيون كعادتهم، ولم يعط العرب الخليجيون لمصر الأموال التي وعدوا بها سابقاً، والتي زادت الحاجة إليها في ظل عجز مالي متفاقم، وتراجع حاد للاحتياطي النقدي من العملة الصعبة، وانخفاض سريع في سعر الجنيه أمام الدولار الأميركي. والأهم من ذلك أن الإمارات زادت هجماتها وعمقت اتهاماتها لـ"الإخوان"، واعتقلت 11 من العناصر المحسوبة عليهم، بتهمة القيام بأنشطة معادية، وهي اتهامات أكدتها الكويت ضمناً عبر تصريحات نسبت للقيادة السياسية الإشارة إلى تورط كويتيين في دعم "خلية الإخوان المصريين في الإمارات".

في الأسبوع الماضي، حدث تطوران لافتان في السياسة الخارجية المصرية؛ أولهما أن وفداً رفيع المستوى يضم القيادي الإخواني ومساعد رئيس الجمهورية عصام الحداد ورئيس الاستخبارات العامة، الذي عينه مرسي في منصبه، رأفت شحاتة، ذهب إلى الإمارات لحل مشكلة الـ11 "إخوانياً" المعتقلين، ويبدو أن الوفد عاد من دون وعد بحل.

وثانيهما زيارة وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي لمصر، وإعلانه توجيه الدعوة لمرسي لزيارة إيران مجدداً، وإعلان وسائل إعلام إيرانية توجيه دعوة مصرية لنجاد ليزور القاهرة، فضلاً عن الأنباء عن لقاء جمع بين الحداد والقيادي الاستخباراتي الإيراني قاسمي سليماني، وهي الأنباء التي تم نفيها من قبل جماعة "الإخوان"، رغم تأكيد وسائل إعلام عالمية ومحلية لها.

لم يتغير الكثير في طبيعة العلاقات المصرية- الإيرانية، فما زالت تلك العلاقات خاضعة للمؤثرات الخارجية، ومرهونة لمواقف الحلفاء والخصوم، وهي أبداً لا تُرجى لذاتها، وإنما تُستخدم كورقة لـ"تليين القساة"، أو "إغضاب المناوئين"، أو لـ"إرضاء الجمهور"، وليس لتحقيق اختراق سياسي، يمكن أن يغير شيئاً جوهرياً في حسابات الإقليم والعالم.

لن يتورط مرسي في المضي قدماً في تطبيع كامل للعلاقات مع إيران، إلا إذا فقد الأمل تماماً في الحصول على مساندة من السعودية والكويت والإمارات، أو قرر خسارة صداقته لواشنطن وتحالفها معه ومع جماعته، والإضرار بتفاهماته مع إسرائيل، وهو أمر بعيد على أي حال.

ستحاول إيران كسب مصر "الإسلامية" كرصيد يعوض تبدد الحليف السوري، وليس حباً في القاهرة أو إخلاصاً لها، وسيحاول مرسي استخدام طهران لتليين قسوة الخليجيين، أو تعزيز قدره عند الأميركيين، وليس إيماناً بضرورة أن تكون العلاقات مع إيران إيجابية وقوية.

يتبادل السياسيون المصريون والإيرانيون في اللقاءات التي تجمعهم كلاماً ودياً دافئاً بأكثر مما تعكسه العلاقات بين بلديهما على الأرض، لكن هذا الكلام لا يفضي أبداً إلى أفعال إيجابية على صعيد تطوير العلاقات الثنائية. وكما بدأنا بمثل شعبي مصري، فيمكننا أن نختم بآخر قد ينطبق أيضاً على العلاقات بين البلدين... وهو مثل يقول: "أسمع كلامك أصدقك... أشوف أمورك أستعجب".

* كاتب مصري