يفيد يوسف محمد الصواني في كتابه {نظريات في العلاقات الدولية}  أنه وحتى وقت قريب كان العالم المعاصر متمحوراً حول الكيانات السياسية للدول الوطنية، منذ أن تأسس نظامها بموجب اتفاقية وستفاليا التي أنهت حروب أوروبا في عام 1648. لينتشر في قارات العالم المختلفة مكوناً ما اصطلح على تسميته النظام الدولي المعاصر. ظلت الدولة مركز ومحور النظام العالمي ومصدر تفاعلاته، سواء كانت تفاعلات تعاونية أو صراعية، وبدا وكأن الإنسانية ركنت إلى هذا النموذج بينما صور الأمر في الرؤى الليبرالية أنه نهاية للتاريخ.

Ad

 لكن نهاية الحرب الباردة التي ميزت العلاقات الدولية عموماً وعلاقات الشرق والغرب خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية فتحت آفاقاً، لا يبدو أن لها حدوداً، أمام تطورات وتحولات أفسحت المجال أمام فاعلين جدد، إضافة إلى الدول، بل وبدا لوهلة أن الدولة الوطنية والسيادة التي تحصنت بها لقرون عدة كانت في مهب الريح أو الى زوال. برز فاعلون جدد بدأوا يقاسمون الدول ما كان يعد مجالها التقليدي الخاص بها وشهدت الألفية الجديدة تنوعاً في الفاعلين ومستويات التفاعل بينهم بشكل لم يكن مسبوقاً.

رافقت العولمة الاقتصادية والثقافية والاتصالية قوى جديدة وتنوعت أشكال العمل والتفاعل وزادت كثافته وأفرزت إلى السطح قضايا وانشغالات وتحديات جاوزت الحدود التقليدية لنشاط الدولة وجغرافيتها، وأدت إلى إبراز الحاجة إلى حوكمة دولية تحقق السلام والأمن أو تحد من خطر الحرب واحتمالات الفناء. كذلك أبرزت تحديات خطيرة ارتبطت بالإرهاب وبتعاظم دور الفرد أيضاً، ما أعطى المسائل الأمنية أولوية خاصة مجدداً، لتعود الدولة متمسكة بمجالها التقليدي وسيادتها التي لا تقبل المساومة عندما يتعلق الأمر بالبقاء، وهو ما تم التعبير عنه بشكل ملحوظ في الولايات المتحدة الأميركية، قبلة الليبرالية، أكثر من أي مكان آخر.

 مرّ النظام الدولي بتحولات هائلة وراديكالية خلال تاريخه الطويل، وقاد الوعي بهذه الحقيقة منظري العلاقات الدولية ومحلليها إلى التيقن من أن صفة العلاقات الدولية الأبرز كحقل معرفي، أهميتها، وتؤدي دورها بين حقول المعرفة الاجتماعية والإنساني عموماً في ما تقدمه من مفاهيم ومقاربات وعدة تحليلية لفك مكونات هذه الظواهر وتفسيرها واستنباط ما يحكمها.

إسهامات المفكرين

يعرض الكتاب لإسهامات المفكرين في حقل العلاقات الدولية منذ نشأته كحقل معرفي مستقل لأجل تفهم الظواهر والتفاعلات والمستويات المركبة المتنوعة والبالغة التعقيد للعلاقات بين مختلف مكونات النظام العالمي، وفي مقدمها الدول. وتسيطر على الكتاب الذي يعرض لمساهمات ومدارس ومقاربات العلاقات الدولية ومناظرات حقلها المعرفي فكرة جوهرية تستند إلى الترابط والجدل المتواصل والمنتج بين النظرية والواقع الذي يميز الحقل المعرفي الديناميكي بامتياز. تقدم فصول الكتاب إنتاج منظّري وفلاسفة الحقل، لكنها تحرص أيضاً على تأكيد أهمية الواقع وما يفرزه من تصورات تحدث تأثيرها في النظرية، كذلك تحاول أن تربط العرض النظري بنماذج وأمثلة من تاريخ العلاقات الدولية الطويل، بما يفك طلاسم التنظير المجرد ويحقق الفائدة المرجوة من دراسة النظريات.

قسّم الباحث كتابه إلى سبعة فصول، يقدم في الأول بعنوان {تطور حقل العلاقات الدولية ومناظراته الرئيسة} تأريخاً للحقل ويعرض لموضوعه ومحتواه وكيف تطور، خصوصاً خلال القرن الأخير، وهو ما يعمل كتمهيد أو مقدمة موضوعية لما صار يعرف بالمناظرات الكبرى في الحقل. لذلك يركز على المناظرات الكبرى بين الأنساق الفكرية، وهو ما سيطر على الحقل لعقود طويلة وحدد محتواه وتوجه الخبراء فيه. أما الفصل الثاني والثالث فيهتمان على التوالي بمدرستين أساسيتين في حقل العلاقات الدولية هما الليبرالية والواقعية ويعرضان لروافدهما المختلفة كأبرز مدارس ورؤى فكرية مثلت وعبرت عن التراكم الهائل للإنتاج النظري لدارسي العلاقات الدولية.

الفصل الرابع {خصائص النظرية السياسية للعلاقات الدولية}، يعيد نشر الفصل الأول من كتاب ديفيد باوتشر {النظريات السياسية في العلاقات الدولية}، هذا الفصل يقدم عرضاً تحليلياً للمدارس والرؤى التي يحفل بها حقل العلاقات الدولية، مع الأخذ في الاعتبار تاريخه المديد الذي يعكس تأثيراً هائلاً ومتواصلاً للنظرية السياسية جرى تجاهله، وهو ما يعتبر خطأ فادح. وتعكس المقاربة ما جرى في المناظرة الرابعة التي شهدها الحقل النظري للعلاقات الدولية التي رأت في الادعاء بأن العلاقات الدولية مجال منفصل نظرياً وعملياً عن النظرية السياسية والاجتماعية، لا يمكن تبريره.

الفصل الخامس من الكتاب {مقاربات ما بعد الوضعية}، يعرفنا فيه الكاتب إلى الجدل الذي لا يزال محتدماً بين المقاربات التقليدية والمعيارية وتيارات ما بعد الحداثة من ناحية، والمقاربات التي تعتمد رؤية وضعية أو {علمية} لحقل العلاقات الدولية من ناحية أخرى. فالجدل هنا يتعلق بفكرة العلمية ودور الوضعية والتحليل الكمي والنماذج التي قدمها منظرو الحقل منذ السلوكية وبرفضها من تيار فكري يرى أن الحقل لا يستقيم بهذه الطريقة وأنه لا بد من إعادة الاعتبار إلى الطرائق التقليدية والمعيارية وهو ما يعد تعبيراً عن التيارات الفكرية النقدية ضمن ما بعد الحداثة. أما الفصل السادس {تحليل العلاقات الدولية: نحو فهم أعمق للأنساق والمقاربات} فقد خصصه الصواني للتعريف بالتحليل في العلاقات الدولية آخذاً بعين الاعتبار التعدد والتنوع في الحقل كما عرضته الفصول السابقة، إضافة إلى التحديات المتصلة بمستويات التحليل، خصوصاً أن المحلل أو من يتصدى للفهم وتفسير العلاقات الدولية، سيجد نفسه مضطراً إلى الإحاطة بمستويات هائلة من التنوع والتعدد، وهو أمر من شأنه أن يجعل القول بإمكان أو ملاءمة تبني أسلوب تحليل أو مقاربة محددة مثل القيام بالبحث عن شيء مفقود في بحر الظلمات.

يقدم الفصل السابع {العولمة: التنظير الكوني والتحدي العربي} ما للعولمة كسياقات كونية مؤثرة من دور وتأثير على الحقل والنظريات المتضاربة والمتناظرة في إطاره. هنا يقدم الصواني مقاربة للعولمة لا تهتم بتاريخها بقدر ما تركز على تمثلاتها وتأثيراتها على ما له صلة بحقلنا المعرفي. كذلك تحاول استكشاف جوانب هذا التأثير في ما يمس الدولة والهوية والأمن والاقتصاد والقيم والديمومة والتغيير.

يتصل النقاش في الفصل الأخير من الكتاب أيضاً بالمناقشات الساخنة التي جرت في الحقل وطاولت واقعه ومستقبله ومآله، لدرجة جعلت أولئك الذين لا يزالون يرون حقل العلاقات الدولية منحصراً فقط بالدولة القومية وتفاعلاتها مع غيرها من الدول المماثلة، يسارعون إلى إعلان موت العلاقات كموضوع ومجال وحقل للمعرفة العلمية.