عصفوري !
شاهدت الفيلم اللبناني «عصفوري»، لدى عرضه في مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة في الدورة التاسعة لمهرجان «دبي السينمائي الدولي»، وشاركت في الندوة التي عقدت بعد عرض الفيلم، بحضور المخرج فؤاد عليوان، وأذكر جيداً أن المناقشة تركزت حول القضايا السياسية والاجتماعية التي طرحها المخرج، لكن أحداً من الحضور لم يخطر بباله أن يوجه للمخرج انتقادات من نوعية أنه قدم «فيلماً إباحياً»، وأن مشاهد الفيلم خدشت الحياء أو داعبت غرائز الشباب واستفزت «العائلات»! من هنا تملكتني الدهشة عندما علمت أن «عصفوري» فجر أزمة عقب عرضه في الليلة الأخيرة لمهرجان وهران للفيلم العربي في دورته السابعة، تحديداً في المسابقة الرسمية، وأن مواجهة ساخنة احتدمت بين النقاد والمخرج، بسبب، ما قيل، عن وجود مشاهد جنس «لم يكن لها أي داعٍ، ولا تخدم الحدث، ولا القصة، ولا تبني عند المشاهد تطوراً درامياً ولا رومانتيكياً»، ما أثار غضب المخرج فرد عليهم قائلاً: «تلك المشاهد ليست غريبة عن المجتمع اللبناني، وضرورية في سياق موضوع الفيلم»!
تمنيت، بالطبع، لو أن المخرج كان أكثر حنكة وديبلوماسية، ولم ينجرّ وراء الاستفزاز، لكنني التمست له العذر لسببين؛ أولهما أنه يقدم فيلمه الروائي الطويل الأول، وبالتالي لم يكتسب بعد خبرة تفويت الفرصة على «المتحرشين» ومحترفي استفزاز المخرجين في الندوات، وثانيهما أنني وضعت نفسي مكانه، وشعرت كم هو حانق وغاضب لأن النقاد لم يجدوا في «عصفوري» إلا مشاهد «جنس» و{عري» في حين أن الفيلم يتبنى قضايا أكثر أهمية من ذلك! تتمحور أحداث الفيلم الذي كتبه فؤاد عليوان مع زوجته روزي عبده، حول بناية أبو عفيف التي يرغب الجد في ترميمها، بينما يسعى حفنة من الانتهازيين والأفاقين إلى استصدار قرار بهدمها، ومحو تاريخها الذي بدأته منذ عشرينيات القرن الماضي، وعاشت خلاله أحداثاً مصيرية؛ كالحرب الأهلية (1975)، ظهور الميليشيات، الاجتياح الإسرائيلي (1981)، اشتعال المقاومة، توقيع اتفاقية الطائف (1989). ومع إعادة إعمار بيروت، وعودة الحفيد من المهجر، تدبّ الحياة في البناية التي تضم بين جنباتها طوائف الشعب اللبناني، ويتجدد الحلم في حمايتها من الفناء؛ فالبناية، كما وضح من الفيلم، ترمز إلى «الوطن»!يجذبك الفيلم بانتقالاته الزمنية، ورصده للأحداث التي عاشتها البناية / الوطن من دون مباشرة، لكنه يصدمك، ويزعجك، بإقراره أن تحولاً خطيراً اعترى البناية، وسكانها الذين يختلفون في الديانة واللغة والمعتقد، حتى أن منهم من لم يأبه بخطورة «طمس الهوية»، ورحب بإحياء الحاضر، واستشراف المستقبل، على حساب الماضي ! في المؤتمر الصحافي الذي عُقد عقب عرض الفيلم في دبي، قلت للمخرج / كاتب السيناريو إن السينما المصرية استهلكت فكرة «البناية» المنهارة التي تحمل إسقاطاً على «الوطن» الآيل للسقوط، وضربت له مثالاً فيلم «الناس اللي جوه» (1969) تأليف نعمان عاشور وإخراج جلال الشرقاوي، وسألته عن الجديد في تجربته، وأتصور أنه أدرك لحظتها أن الفيلم لم يرق لي، وهذا صحيح؛ إذ ضيع عليوان على نفسه فرصة صنع فيلم قوي البناء، يندرج تحت نوعية أفلام «النوستالجيا»، الحنين إلى الماضي ـ وتباين مستوى الفيلم بين مناطق قوية مقارنة بأخرى أقل تماسكاً، واختلاف طريقة السرد، واختلاف توظيف «الفلاش باك»، والنمطية في استدعاء الحرب الأهلية اللبنانية، ما تسبب في ضياع «الهارموني» والانسجام، والدوران في فلك الأفكار القديمة نفسها! الخلاصة أن بمقدورك، كمتابع للفيلم اللبناني «عصفوري»، أن تتحفظ على نقاط عديدة فيه، لكن من العار أن تتجاهل رسالته التي تحذر من خطورة الانسياق وراء شهوة هدم الوطن تحت ذريعة إعادة الإعمار، وتسقط في فخ الترويج لمزاعم وأباطيل حول الجمهور الذي غادر قاعة العرض، بسبب زيادة جرعة الشهوة على حساب العاطفة، والإفراط في تقديم الجنس من دون داعٍ؛ فمثل هذه المزاعم تعكس نوعاً من الارتباك في تلقي وفهم الفيلم السينمائي، وأي عمل فني، وغالباً ما تتردد في دوائر التطرف وبين أوساط المتشددين، ممن لديهم هاجس مرضي حيال أي حديث في الجنس، وينتابهم الهلع لحظة العثور على مشهد جنسي في فيلم سينمائي، وهو ما يقودنا إلى السؤال المهم: «لماذا عُرض «عصفوري» في «دبي» ثم «لبنان»، ولم يُثر ضجة كتلك التي فجرها أخيراً في «وهران»؟!