الرجال الذين يحادثونني (2)

نشر في 08-07-2013
آخر تحديث 08-07-2013 | 00:01
 فوزية شويش السالم الجزء الثاني من مقالي سأتناول فيه بعض ما كتبته أناندا ديفي في روايتها التي هي في الواقع سيرة حياتها ككاتبة، وما تتطلبه الكتابة من تفرغ وصفاء ذهن لا توفره لها حياة زوجية لها متطلباتها التي تريد الاستيلاء عليها كأم وزوجة، وكل من الواقعين يشترطان الاستحواذ الكامل.

ما جعلني أفرد جزءا ثانيا للرواية هو عمق بصيرتها وفهمها لذاتها ولواقعها بتجرد وحياد واضح صريح لا يتجمل من أجل تحسين صورة أو اكتساب قارئ أو خوف من حكم الآخر، أو كما قالت: «ان كلمة خوف هي قفل كينونتي».

«ما عدت أطيق كوني مزدوجة، مفككة، موضوعة قيد السؤال، قيد الاستجواب، مدللة، محتقرة، مكروهة، مدمرة من الحب والملامة، كلهم يشترطون المزيد مني. وماذا عني؟ الكلمات، ملجئي، وحكايتي، والمكان الذي تتشكل فيه، أخيرا صورة أخرى، صورة امرأة مستحقة لأن تكون... لا سعادة تضاهي سعادة الاختيار».

هذا هو بالضبط واقع المرأة الكاتبة ولعلنا جميعا ككاتبات نعاني بدرجة ما من هذا الواقع، فمثلا ابنها يحاكمها بهذه الكلمات: «كنت تريدين أن تكوني رفيقة لنا. لم نكن نحتاج إلى رفيقة، كنا نحتاج إلى أم».

يا إلهي كم هي جملة قاسية، فحين نتنازل عن قوتنا وهيبتنا لنصبح رفقاء لأبنائنا يأتي جوابهم بأنهم ليسوا بحاجة إلى هذه الرفقة بل في حاجة إلى أم، ولو حصلوا على الأم سيتذمرون أيضا ويطلبون الصديقة، وكما تكتبها أناندا ديفي: «ما كنت أظن قط أني سأتلقاها، ذات يوم، مثل موسيقى نشاز، مثل تناغم مكسور يصب في رأسي شكوكا وأسى، يقول لي انه تولد لديه، منذ الخامسة من عمره، الشعور بأن عليه أن يحميني، فيما يتعين عليّ أنا أن أحميه، هو وأخاه. إنه يقول الحقيقة، قسوة العائلات مدعاة للدوار، الآباء، الأمهات، البنات، هناك من القناعات ما يتعين التخلص منه. إنه يكشط جلود التسامح واللطف التي كثيرا ما تدثرت بها.... هذان الطفلان اللذان كنت أظن أنني أعرفهما باتا بالغين، ولا أعرفهما أبدا، بينما بدا الوقت ثابتا، لا يتحرك. رحلة بالمقلوب أسعى فيها إلى تذكر من أين أتيا. انبثقا مني. هما متشكلان، تامان، من دون أي نقصان. رجلان صغيران قيد التشكل، اغتذيا من لحمي، بيد أنني لم أكن سوى بيت للسكن خلال تسعة شهور. ما يفي لبناء قوة في مواجهة العالم، لحمي لحم آخر. بداهة تمضي الأمهات وقتا طويلا قبل فهمها».

«هذا ما يصيبنا في المقابل، نحن أمهات اليوم، الأولاد أولاد أبديون، ويمتنعون عن أن يكبروا. يصبحون رجالا أو نساء، لهم نظرات غاضبة مسلطة على والديهم، الذين يلمونهم على حياتهم».

وتكون الكتابة والفنون بشكل عام هما عاملا مهما في خلق هذه الأزمة، وكما كتبت تقول: «كيف يمكن عقد صلح بين عصاب الكلمات وعصاب الحياة؟ هذا ما لا يمكن التوفيق بينهما، إن مثل هذه المفارقة تفتح بنفسها تجربة الأنانية التامة لدى الكاتب: سأنسحب من كل شيء من أجل أن أهب نفسي للكتابة، أرجو ألا يزعجني أحد».

وتحلل الكتابة وعلاقتها بها بشرط ارتباطي لا مجال للانحلال منها فهي تقول: «لو أنني لا أكتب، لما كان قد بقي أي شيء، لا يسعني التقاط حياتي إلا في اصطفاف الحروف والعلامات التي تَظهر، كما بمعجزة، فوق الشاشة. أخلط حياتي بالحروف والعلامات، أسحقها بها، أربطها، والعربات موجودة لهذا الغرض. بيد أن كتابته سمحت لي بشيء من التماسك، بينما كل شيء يمضي مع التيار. لا أقوى على فهم معنى الأشياء إلا عند كتابتها، إذ تحل هنا، فوق الورق، يلمع شيء فضي في أشد اللحظات مأساوية. الكلمات، ملجئي، وحكايتي، والمكان الذي تتشكل فيه ، أخيرا، صورة أخرى، امرأة مستحقة لأن تكون. الكتابة عذابنا، بيد أن هذا تحديدا هو ما يجعلنا سعداء، على الأقل السعادة بأننا نتألم. بقائي على قيد الحياة، كان كتبي، إنها حياتي، حولي، العائلة، العالم، المهنة والعزاء».

رواية رائعة مكللة بهذا الصدق الفادح، وهي من إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، من سلسلة إبداعات عالمية.

back to top