روى القسيس في إحدى العظات الكنسية أن سيدة جاءت إلى الكنيسة ذات يوم وقصدت غرفة الاعتراف طلباً لمغفرة الرب، فقال لها الأب: ماذا فعلت يا ابنتي، فقالت: لقد اقترفت عملاً خاطئاً، فقد كنت لا أتورع عن اغتياب جاراتي ونشر الأقاويل والإشاعات حولهن، وقد أدركت اليوم خطئي وأريد الاعتراف أمامك طلباً لمغفرة الرب.

Ad

فقال لها الأب: ليس بهذه السرعة يا سيدتي، عليك أولاً أن تعودي إلى منزلك وتأخذي مخدة مليئة بالريش ثم تشقيها بسكين وتصعدي بها بعد ذلك إلى السطح، وتنثري الريش في مهب الريح، وتعودي إليّ بعدها، فخرجت المرأة إلى بيتها، وفعلت ما طلبه منها الأب، وعادت إليه في اليوم التالي قائلة: لقد فعلت ما طلبته مني أيها الأب، فقال لها: حسنا اذهبي الآن واجمعي كل الريش الذي تطاير وأتيني به، فقالت: ولكن ذلك مستحيل أيها الأب، فقال لها: ولماذا مستحيل؟ فأجابت: لأني لا أعرف أين ذهب كل الريش، فقال لها: وكذلك هي الغيبة والأقاويل والإشاعات لا يمكن جمعها بعد أن تنتشر!

استوقفتني كثيراً هذه الحكاية التي كنت سمعتها في فيلم اسمه "الشك"، وتأملت ملياً في كيف أن الواحد منّا لا يتورع طوال أوقات يومه، بقصد ودون قصد، عن المشاركة في نشر الأقاويل والإشاعات عن هذا وذاك، دون تثبت وبلا مبرر. وكيف أن شبكات التراسل الإلكتروني مثل "واتس أب" و"تويتر" و"فيسبوك" والرسائل القصيرة وما يشابهها، قد ساهمت جميعها بتسهيل هذه العملية بل تسريعها وتطويرها وتضخيمها.

تأملت كذلك عميقا في مقادير الضرر الناشئة عن مثل هذه الأفعال التي غدت معتادة ومألوفة على نفوس الناس وأعراضهم وسمعتهم وحجم الجرح ومقدار الألم المتخلف فيهم من جراء ذلك، وهي الأفعال التي نحسبها هينة فلا نلقي لها بالاً خصوصاً أنها قد صارت ليست أكثر من ضغطة زر في زمن الهواتف الذكية!

لن أكرر القول بأن على الإنسان ألا يشارك في الغيبة ونشر الأقاويل والإشاعات لاعتبارات دينية تحرم ذلك وتعده من أشر الشرور، على الرغم من صحة هذا القول، ولن أقول كذلك بأن عليه ألا يفعل ذلك لاعتبارات أخلاقية تستنكف ذلك وتعتبره من التصرفات الدنيئة الحاطة للكرامة، على الرغم من صحة هذا القول أيضاً، ولكنني سأقول بأن عليه ألا يفعل ذلك لاعتبارات إنسانية في المقام الأول، لأن الغيبة ونشر الأقاويل والإشاعات تماماً كأكل لحم الميتة الذي تعف عنه وتعافه حتى أغلب البهائم فما بالك بالبشر الأسوياء.

والمفارقة أن تقنيات التواصل في العصر الحديث وعلى الرغم من أنها جاءت لتقريب الناس بعضهم ببعض والارتقاء بهم بشراً يتحدثون ويتصلون ويتواصلون، فإنها وعبر الاستخدام غير السوي لها على يد بني الإنسان كأنها انحدرت به، حيث ساهمت في زيادة الفجوات بينه وبين أخيه الإنسان وفي شرذمتهم وتفكيكهم أخلاقياً.

في مقابل شخص واحد أجده اليوم يتحدث عن الفوائد التي تحصل عليها من استخدامه لهذه التقنيات أجد خمسة وربما عشرة يتحدثون عن سيئاتها وسوءاتها، وكل ذلك بسبب أن الناس استغرقت في ممارسة الاستخدام غير السوي لها، وقلّ من يحاول استدراج النفع منها.

علينا جميعا أن نتوقف لبعض الوقت عن هذا الاندفاع المحموم لاستخدام هذه التقنيات، وأن نتفكر في سلبياتها والشر الناتج عنها، وأن نرصد دورنا في هذا الذي يجري، وهل نحن ممن يساهمون في نثر الريش الشرير في مهب الريح أم لا؟