مقاطعة الانتخابات المصرية قرار صائب
لا تعطي المعارضة المصرية انطباعاً بالتماسك والصلابة، كما لا تطرح بديلاً قوياً ومتكاملاً للحكم الراهن، ولا تمارس سياسة رشيدة قائمة على العمل مع القواعد الممتدة في أعماق البلاد، لكنها، مع كل ذلك، ليست المسؤول الأول عن الهوة العميقة التي سقطت فيها مصر حالياً.تتكون المعارضة المصرية من خليط غير منسجم من ممثلي تيارات سياسية عديدة؛ بعضها ليبرالي صريح مثل أحزاب "الوفد" و"الدستور"، و"الجبهة الديمقراطية"، وبعضها الآخر يمكن وصفه بـ"الاشتراكي الديمقراطي"؛ مثل "التحالف الشعبي"، و"الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي"، وبينها أيضاً تيارات قومية أو ناصرية؛ مثل "التيار الشعبي"، و"حزب الكرامة"، إضافة إلى بعض الشيوعيين والناشطين غير المؤدلجين، وبعض الحركات الوطنية التي دشنت الكفاح السلمي ضد نظام حسني مبارك، مثل "الجمعية الوطنية للتغيير"، وغيرها.
ورغم التباين الواضح بين تلك الأحزاب والجماعات السياسية، فإن التحديات الهائلة التي يطرحها حكم "الإخوان المسلمين" المأزوم لمصر يجمعها ويصلّب مواقفها.في الأسبوع الماضي اتخذت المعارضة المصرية، التي انطوت فصائلها في كيان واحد تحت اسم "جبهة الإنقاذ الوطنية"، قراراً بمقاطعة الانتخابات البرلمانية التي دعا الرئيس مرسي المصريين إلى المشاركة فيها، لاختيار أعضاء "مجلس النواب" (الغرفة العليا بالبرلمان)، في شهر أبريل المقبل.كان الرئيس اختار موعداً سابقاً في شهر أبريل أيضاً، إلا أن المسيحيين المصريين اعترضوا عليه، حيث إنه تزامن مع احتفالهم بأعيادهم الدينية، فعاد الرئيس عنه، واستبدل به موعداً آخر في الشهر نفسه.تعطي الطريقة التي حدد بها الرئيس موعد الانتخابات، ثم عودته عنه وتغييره، مثلاً واضحاً لأداء جماعة "الإخوان المسلمين" على رأس الدولة المصرية، إذ يعد هذا هو القرار السادس من نوعه الذي يصدره الرئيس ثم يعدله أو يلغيه.فقد سبق مثلاً أن أصدر قراراً بعودة مجلس الشعب المنحل ثم عاد عنه، وأقال النائب العام السابق، ثم سحب القرار، ورفع أسعار بعض السلع، ثم جمّد قراره، وأصدر إعلاناً دستورياً غريباً في شهر نوفمبر الماضي، ثم ألغاه واستبدل إعلاناً آخر به، كما أعلن قراراً بحظر التجوال في محافظات القناة، ثم تراجع عنه، مفوضاً محافظيها اتخاذ ما يرونه مناسباً.إنه مسلسل من الفشل والارتباك غير المسبوق في إدارة الدولة، أدى إلى سلسلة من الانتكاسات، التي ترافقت مع تدني الأداء الاقتصادي، وتردي سعر العملة، وتراجع الاحتياطي النقدي، وتقلص المخزون من السلع الاستراتيجية، إضافة إلى استفحال الانفلات الأمني، وتفاقم التظاهرات والاعتصامات ومظاهر العصيان.لا يمكن أن تكون المعارضة مسؤولة بالطبع عن مجمل تلك التراجعات، خصوصاً أنها لم تكن أبداً في موقع اتخاذ القرار، سواء من خلال المشاركة في الحكومة الهزيلة التي شكلها الرئيس في أعقاب انتخابه، أو من خلال المشاركة في البرلمان الذي يهيمن عليه "الإخوان" وحلفاؤهم التقليديون من السلفيين وأتباع التيارات الإسلامية الأخرى.ينتقد كثيرون قرار المعارضة المدنية المصرية بمقاطعة الانتخابات المنتظرة، آخذين عليها "عدم قدرتها على المنافسة" في الانتخابات، وانسحابها من الميدان لـ"إدراكها أنها لن تستطيع تحقيق النجاح"، وإضرارها بالعملية السياسية التي يجب أن تقوم على المشاركة من كل الأطراف.الولايات المتحدة نفسها انتقدت قرار المعارضة ضمنياً، وحضتها على المشاركة في الانتخابات من أجل دعم "العملية الديمقراطية"، وبعض المعارضين الليبراليين والمحللين والنقاد غير المؤيدين لتيارات الإسلام السياسي أيضاً انتقدوا قرار المقاطعة، واعتبروا أنه تضييع لفرصة كبيرة بعدما "تراجعت حظوظ الإسلاميين وفقدوا جزءاً من شعبيتهم بسبب أدائهم المخيب للآمال".والواقع أن "الإخوان المسلمين" فقدوا جزءاً لا يستهان به من شعبيتهم منذ سيطروا على مفاصل الحكم في مصر، خصوصاً أن أداءهم اتسم بضعف شديد لم يتوقعه أكثر نقادهم وخصومهم سوء ظن بهم. ولم يقتصر الأمر على فقدان "الإخوان" جزءاً من شعبيتهم بسبب أدائهم السياسي المزري والمفتقد إلى الكفاءة، لكنهم أيضاً فقدوا جزءاً كبيراً من اعتبارهم الأخلاقي، بعدما ثبت للكثيرين من أنصارهم أنهم خدعوهم حين تحدثوا عن "تطبيق الشريعة"، ثم وصلوا إلى الحكم مدعومين بأصوات ملايين البسطاء من "محبي الشريعة وأنصارها"، ليعارضوا أسلمة الدستور في الجمعية التأسيسية، ويحافظوا على الود والدفء في العلاقات مع إسرائيل، ويقترضوا من صندوق النقد الدولي بـ"الربا".لذلك، فقد وقع الشقاق بينهم وبين حلفائهم السلفيين، الذين انتقدوا "الإخوان" لأن أداءهم "لا يخدم تطبيق الشريعة"، ولأنهم "استأثروا بالسلطة" خصوصاً بعدما لم يعينوا عدداً من الوزراء السلفيين في حكومة قنديل، وبعدما أقالوا مستشار الرئيس السلفي خالد علم الدين.يرى نقاد المعارضة إذن أن الفرصة سانحة للمشاركة في الانتخابات وتحقيق مكاسب واضحة لا تترك الحكم في قبضة "الإخوان" وحدهم، وتضمن استمرار العملية السياسية بشكل ديمقراطي، وتعيد التوازن إلى السلطة التشريعية بعدما خطفها الإسلاميون في أعقاب ثورة يناير.لكن قرار المعارضة بمقاطعة الانتخابات يبقى صائباً رغم كل ذلك.فما يطرحه الرئيس على المعارضين الآن ليس سوى وعود سبق أن نكص بعشرات مثلها، خصوصاً وقد أثبت أنه من هؤلاء القادة الذين يتراجعون عن تصريحاتهم بين عشية وضحاها دون أي اعتبار لذاكرة المواطنين وتوثيق وسائل الإعلام.يرفض الرئيس وحزبه وجماعته تغيير قانون الانتخاب ليكون أكثر عدالة ونزاهة، كما يمنع إعادته للمحكمة الدستورية لمراجعته قبل إقراره، ولا يتيح الفرص اللازمة أمام الرقابة الدولية على الانتخابات، ولا يرضى بتغيير الحكومة التي ثبت انحيازها وفشلها بحكومة أخرى محايدة لضمان نزاهة العملية الانتخابية، كما لا يعطي ضمانات كافية بإشراف القضاء عليها، أو تنقية جداول الناخبين المدعوين إليها.فالمطروح على المعارضة المصرية إذن ليس سوى دعوة للمشاركة في انتخابات لا تتوافر بها الحدود الدنيا من ضمانات العدالة والحيدة والنزاهة، على أن تجري تلك الانتخابات تحت إشراف سلطة ثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنها لا تتحلى بالنزاهة، ولا تتورع عن نقض التعهدات طالما أن ذلك سيحقق لها مصالحها وسيثّبت أقدامها في الحكم.من المهم جداً متابعة ما يصدر عن السلفيين من مواقف حادة ضد حلفائهم السابقين "الإخوان" في تلك الأيام. فقد اتهم السلفيون "الإخوان" بنقض الوعود، وسوء الأداء بشكل "لا يخدم المشروع الإسلامي"، و"أخونة الدولة"، معتبرين أن مرسي "ليس رئيساً لكل المصريين".ستكون مشاركة المعارضة في تلك الانتخابات مكسباً كبيراً لـ"الإخوان"، وذريعة لهم لإعطاء انطباع للعالم الخارجي بأنهم يرعون عملية سياسية ديمقراطية ناجحة في مصر، وستكون مشاركة الأحزاب والقوى المدنية في "البرلمان" المنتظر تشكيله ذريعة أيضاً لتحميلها جانباً من المسؤولية عن التردي العام الذي يبدو أن "الإخوان" مصرون على تكريسه وتعميقه.لا يجب أن تشارك المعارضة في انتخابات لا تتوافر بها أي ضمانات للحيدة والنزاهة، ولا يجب أن تشارك أيضاً في برلمان دولة "الإخوان"، الذي لن يختلف أداؤه عن أداء الرئاسة والحكومة "الإخوانية"، التي تأخذ مصر من فشل إلى فشل.* كاتب مصري