كنت انتهيت في المقال السابق من حصر أهم الأسباب التي أدت إلى خلخلة الحراك المعارض، وحرصت على تحاشي وصفه بالفشل لإيماني بأن الأمور لم تُحسم بعد، حيث لا يزال في شرايين، ولن أقول كل بل بعض أجزاء وفعاليات الحراك، نبضٌ يدبُّ يمكن أن يغير المعادلة ولو على المدى الطويل.

Ad

تلك الأسباب التي حصرتها في المقال السابق، يمكن للقارئ الرجوع إليها في موقع جريدة "الجريدة"، أدت اليوم إلى وضع أغلب المنتمين إلى الحراك المعارض في حيرة واضطراب تجاه التعامل مع المرحلة القادمة، خصوصاً أنهم لا يعلمون أساساً إن كانت فعاليات وأنشطة الحراك السابقة قد انتصرت أو حتى إن كانت قد نجحت على الأقل في تحقيق أي مكسب، وهذا أمر غير مستغرب لأنه نتج عن عدم وضوح أهداف الحراك أصلاً، وأي شخص لا يعرف هدفه من أي عمل يقوم به لن يكون قادراً أبداً على أن يعرف إن كان قد نجح في تحقيقه أو لم ينجح، بل على العكس تماماً، فإن قطاعاً كبيراً من شباب الحراك تجاوزوا الحيرة والاضطراب، وباتوا يقولون إن المقاطعة السابقة كانت خطأً استراتيجياً لا بد من تصحيحه اليوم بمشاركة قوية وواسعة، ويذكرون لذلك ذرائع مختلفة منها ما يلي:

أولاً، هم يطرحون سؤالاً مستحقاً مفاده إن قاطعنا ولم نشارك فماذا سنفعل؟ وهذا سؤال موضوعي جداً لا يمكن أن نلوم الشباب على طرحه، فليس من المنطقي أن نحثهم على المقاطعة ولا نقدم لهم في المقابل بديلاً مقنعاً، فهذه في نظرهم انهزامية وسلبية، ومثلها لا يتناسب مع طبيعة الشباب المندفعة والثائرة أصلا. وبزوغ هذا السؤال الملح يعود أيضا إلى أن قيادات الحراك لم ترسم استراتيجية الحراك طويلة المدى ولم تضع خططه المرحلية ولا سلالم خطواته التصاعدية، وقُصارى الأمر أنها كانت تُساق، والناس يتبعونها بطبيعة الحال، بأسلوب رد الفعل للدخول في أنشطة وجهود مبعثرة غير متناسقة صعدت وهبطت وتقدمت وتراجعت بلا ضابط أو رابط، وكلنا شهدنا ذلك!

الذريعة الثانية هي عدم ترك المجال لتلك النماذج السيئة والضعيفة والمنبطحة للسلطة تماما للوصول إلى البرلمان كما حصل، وقد لعبت السلطة على هذا المعطى جيداً خلال الفترة السابقة، فقد أمعنت في إشعار المقاطعين بالعُزلة وأن أمور البلد برمته سار بعيداً عنهم، وأن هذا ما جنوه على أنفسهم بمقاطعتهم. ويضاف إلى هذه الذريعة ذريعة ثالثة يدندن حولها البعض فيجدون لهم آذاناً صاغية، باعتبار أن أغلبية الطائفة الشيعية لم تقاطع الانتخابات السابقة بدليل وصول عدد كبير من نوابهم في البرلمان المبطل، ألا يفسح المجال لهم، خصوصا في ظل التعملق والتشيطن الإيراني في الجوار وتهديداته المستمرة وربط الأمرين بعضهما ببعض. وخط التفكير هذا تغذيه السلطة نفسها، على الرغم من كل مزاعمها المعاكسة، ففي ظل إبقاء هذه الحالة المستمرة من التحفز والقلق والاستقطاب الطائفي والتشرذم في أركان المجتمع وعدم القضاء عليها على مر سنوات طويلة، وقد كانت قادرة على ذلك لو هي أرادت، أمكنها دائما أن تظل ممسكةً بمقاليد التفوق والسيطرة.

 والذريعة الرابعة، وهي أنه ما دامت المحكمة الدستورية قد قضت بصحة إجراءات مرسوم الصوت الواحد، وباعتبار أننا دولة مؤسسات- زعموا- فلا سبيل للمواجهة إلا من خلال البرلمان وعبر الأدوات الدستورية المتاحة.

وهنا سأعترف بأنها ذرائع وحجج قد تبدو منطقية وقوية للوهلة الأولى، لكن أعدكم أن أتناول تفنيدها في المقال القادم، والذي أعدكم أيضا أن يكون الأخير، وسأنتهي فيه كذلك إلى لماذا وكيف يجب أن تكون المقاطعة والمواجهة في الفترة المقبلة، فإلى اللقاء.