أكتب اليوم عن الشأن المصري بعد انتظار طويل وتردد كبير، بالرغم من أن القاصي والداني قد كتب وتحدث وأفتى ودس أنفه في تلافيفه، انتصاراً لفئة على أخرى غالباً. وترددي راجع لأمور عدة أهمها أولاً أن أهل مصر، وهم الذين فيهم من فيهم من أهل الفكر والعلم والأدب والسياسة، أقدر وأعرف من الجميع بالمسألة ومبتداها ومنتهاها، وليسوا في حاجة أبداً إلى رأي أحد ليرشدهم أو يدلهم على الطريق، وثانياً أني، وأخال أغلب من يكتبون ويتحدثون عن المسألة من غير المصريين كذلك، لست ملماً بالتفصيلات الدقيقة، وأقصى ما سأظل أمتلكه أفكاراً كونتها عبر متابعة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، والتي ستظل بعيدة عن الموضوعية والموثوقية، وسأظل لذلك كالجالس في الظل في حين أن المصريين هم الذين يصطلون في الأتون!

Ad

لكنني سأُقدِم بعد الاستئذان من مصر وأهلها كي أكتب هذه السطور البسيطة اليوم دون ميل لجماعة على حساب أخرى، وذريعتي حبي وتقديري لمصر بكل أطياف أهلها، وأن شؤون مصر وكل ما يجري فيها لم تكن يوماً شأناً داخلياً، ولطالما كانت ومازالت وستظل منارة تشع على كل العالم العربي بل ومنطقة الشرق الأوسط بأسرها، ولهذا فجميعنا نتأثر ونتفاعل ونفرح ونتألم بها ومعها ولها رغمًا عنا.

من نافل القول أن أكتب أن الشعب المصري، بكل أطيافه وألوانه، هو صاحب القرار أولاً وأخيراً في اختيار وتنصيب من يحكمه، وهو الأقدر على فعل ذلك عبر كل الوسائل التي يرتضيها. فهو الذي أطاح بمبارك في ثورة غير مسبوقة في التاريخ، وهو الذي جاء بمرسي من بعده. ولهذا فليس لأحد غير الشعب المصري أن يكون له قولة في هذا الصدد. والشعب المصري هو الذي يملك الحق اليوم في أن يعترض على سياسات مرسي، رئيسه المنتخب عبر صناديق لم تعترها شوائب التزييف، على عكس كل الانتخابات التي سبقتها، وهو الذي يملك لذلك الحق في أن يزيحه أيضاً ويأتي بغيره إن هو أراد ذلك.

لكن الشعب المصري، وهو الشعب الذي أثبت أنه حي شجاع ما عاد يقبل الظلم والضيم بعد أن رزح تحت نيرها لعقود طويلة، ليس كتلة واحدة صماء في هذا الصدد، بل هو خليط متفاعل متأجج من الآراء والأفكار ووجهات النظر، فإن راق الرئيس مرسي لجماعة منه لم يرق لجماعة أخرى، وإن استعجلت جماعة رحيله لم تستعجله جماعة أخرى، وغيرها وغيرها كثير.

وفي مثل هذا الواقع فلا يمكن أبداً أن تذعن الأمور لرأي هذه الجماعة على حساب تلك الجماعة بالفرض والإجبار والقهر والقوة، فملايين المصريين من كل الأطراف المختلفة باتوا على استعداد للنزول في الميادين والشوارع لمواجهة البطش والقمع والرصاص الحي والدبابات والمدرعات بصدورهم العارية بلا مبالاة في سبيل ما يؤمنون به.

ولهذا يظل السبيل الوحيد لنجاة مصر من مستنقع التصادمات والاضطرابات والدماء والأشلاء، وهي التي ترقص اليوم على حافته، هو التمسك بالخيار الديمقراطي الحر والعودة إلى السبل الدستورية الشرعية التي تم الاتفاق عليها من بعد رحيل النظام السابق الذي كان قد اختطف مفاتيح الأمور كلها. وأؤمن لذلك أن الشعب المصري، على اختلافه، لا يزال وسيظل قادراً، على إدارة شأنه داخلياً دون تدخل من أحد، وقادراً على استعادة وحدته وريادته، وأنه مدرك لحقيقة أن أطراف خارجية، أجنبية وعربية وخليجية بالأخص، تتدخل اليوم وبشكل سافر كبير في تحريك مجريات ما يحصل فaي الساحة المصرية، لأجل مصالحها أولاً وأخيراً، وأنه قادر على تفويت الفرصة على هؤلاء جميعاً، ليستعيد مكتسبات ثورته الأولى فيعود بها إلى مسارها الشرعي الذي ارتضاه عبر صناديق الاقتراع، وأن يصحح من بعد ذلك انحرافاتها بالممارسة الديمقراطية السلمية. كما أؤمن عميقاً أن كل الأطراف المصرية تدرك يقيناً أن خيار حكم العسكر ليس من الديمقراطية في شيء، بالرغم من كل محاولات تزويقه وتجميله وإعطائه الصبغة البهية.

الله الله في مصر يا شعب مصر... الله الله في كل العالم العربي يا شعب مصر، فما يجري وسيجري في عالمنا لن يكون إلا انعكاسا لما جرى ويجري وسيجري في مصر.