للكتابة أنواع ومجالات ومحطات وطرق وأساليب... فأنت أمام مهنة لها أهلها وفنانوها وعظماؤها وتعساؤها، هناك من يسمي الكتابة في الصحافة بالكتابة على بلاط السلطة، أي أن الكاتب يتبع السلطة بكل ما فيها من تناقضات، وهناك من يسمي مهنة الصحافة "صاحبة الجلالة"، ولا ننسى أن كثيرين يسمونها "مهنة البحث عن المتاعب"!

Ad

لست بصدد عرض وشرح درس أكاديمي عن الصحافة والكتابة بوجه عام، وأنا الذي لم أمض في الكتابة أكثر من سنة ونصف السنة، ثم أهندس لك أنواع الكتابة وصفاتها وأسمائها وكل ما يتعلق بها، إنما سأتحدث عن موهبة الكتابة.

فهناك من يظن أن الكتابة موهبة، وهي كذلك، لكن إن لم تصقل هذه الموهبة فتأكد أنها "زي قلتها"، كما تقول اللهجة المصرية المحببة، أي لا فائدة منها ولا من صاحب موهبتها.

وصقل موهبة الكتابة يكون بالقراءة المستمرة، فالقراءة ربيبة الكتابة وأختها، وهي مرادفها، وإن لم تكن قارئاً ممتازاً فمن الصعب أن تكون كاتباً ممتازاً.

أيضاً الدخول إلى الحياة العامة ومخالطة الناس لاسيما البسطاء منهم، تجلب للكاتب مواضيع مميزة قد لا تخطر على باله، فيأتي بمواضيع وأفكار متميزة تميزه عن غيره من الكتاب، فالكتاب كثيرون لكن لا يبرز إلا القلة، وهذا حال أي مهنة أو هواية.

إن تحدثت عن نفسي، أعرف أشخاصاً عديدين منحهم الله موهبة الأسلوب الجذاب في الحديث، بمجرد أن يتحدث أحدهم يجذب السامع بتميزه وفصاحته وطرق عرضه للموضوع، هؤلاء أناس موهوبون بالفطرة لكنهم لا يكتبون، وأظنهم إن كتبوا بنفس طريقة حديثهم فسيلفتون الأنظار، ولا أستبعد أن يكونوا في الصف الأول مع الكتاب المرموقين.

من أهم الطبقات التي يستطيع الكاتب أن يتفاعل معها طبقة البسطاء والكادحين، فمن السهولة الدخول معهم في أحاديث جانبية مشتركة، والأسهل جرهم إلى أي نقاش.

وما أكثر عناوين البنط العريض التي سيخرج بها الصحافي منهم، فهم بسطاء جداً، بإمكانك بدء الحديث معهم بالسلام إن رأيته يمشي في الشارع... فقط بادره بالسلام، وبالطيبة المعهودة بالبسطاء سيرد عليك السلام مبتسماً... هنا، افتتح الموضوع بكلمة عن الجو والطقس، فلن ترى نفسك بعد دقائق إلا وأنت تتحدث معه عن "الجنجويد" في دارفود، وبعدها بلحظات سيكون الحديث جاداً عن أسعار مواد البناء الباهظة، ولا تستغرب إن انتهى الحديث عن أسعار "باص" المواصلات، وبطء حركته بين المحطات!

هكذا البسطاء كما هم فعلاً بسطاء لكنهم أنقياء طيبيون واضحون كوضوح العرق الذي يتصبب من جباههم السمراء في عز أغسطس.

أما من يسمون بالطبقة المخملية أو البرجوازيين، كما ينعتهم "رفقاء" الأمس، فهم معين فقير ويقترب من النضوب، ومن الصعب جداً استخراج موضوع جديد أو فكرة جيدة تصلح للكتابة من على أفواههم، تكاد تكون مواضيعهم واحدة، وأنفاسهم واحدة، وأحياناً حتى ألوان بدلاتهم واحدة!

أنا كرجل بدوي أستطيع من خلال جلسة على فنجال قهوة مع صاحب ذود (أي صاحب إبل)، أن أخرج منه بموضوعات عدة أبرزها عن "مزاين الإبل"، والفرق بين لجنة التحكيم في مهرجان الموروث الشعبي في الكويت، حيث النزاهة والصرامة والمهنية في تحديد النتائج، ولجان المزاين في دول أخرى، حيث تشتهر بتدخل المحسوبيات وبعض الجهات للتأثير على نتائجها.

الكلام كثير إنما الفرق هو في المواضيع التي تكتب، والمواضيع التي يتأثر بها الكاتب، ثم نجد تأثيرها واضحاً على المتابع.