الجمعة الماضية التقيت بشخص لن أنساه ما حييت، فقد حضرت المراحل الأخيرة من الحمل به، حضرتها  يوما يوماً، وعشت لحظة المخاض قبل الولادة به، وحضرت لحظة ولادته، لم تكن تلك أسعد اللحظات!

Ad

 شيّعت يوم وُلد أصدقاء وآخرون لا أعرفهم ذكور وإناث، وشيعت أيضا ذلك اليوم نهراً عذباً يتدفق لذاكرةٍ عطشى لكل قطرة مورقة!

الجمعة الماضية إلتقيت بالثاني من أغسطس

كبر ذلك المولود، وطال وأصبح بطول قامتي...

مع فارق أن جسده تبدو عليه حيوية الشباب، بالرغم من محاولته إخفاء علة في استقامة ظهره للحظة أثناء المشي، إلا أن هذا ليس أكثر ما لفت انتباهي، أكثر ما شدّني هو أنه وبرغم حداثة سنّه إلا أن شعر رأسه كموقدٍ هجره أهله لعباءة الليل الباردة، وقبائل الرماد، أما ملامح وجهه أشبه ما تكون لوحة سريالية رسمتها كثبان من الخيبات لها هيئة التجاعيد على ملامح ذلك الشاب.

ما كنت لأعرفه لولا انني أتعرف على ذلك المولود قبل 24 عاما ببصيرتي لا ببصري!

أستدل عليه من أنفاسه، من صوته المرخّم برائحة الملح الرطب مندسّا بمنديل لؤلؤي حاكته عروسة بحر!

أعرف يوم الثاني من أغسطس من لون عينيه الرمادتين،

أخذته في حضني بين شعورين متناقضين، بين أنني شممت فيه رائحة من فقدت من الأحبة، وبين أن شيئا ما في داخلي يحمّله شخصيا وِزْر فًقْدِهم!

إلا أنني وبرغم ذلك وجدتني آخذه لحضني، ثم أمسكت بوجهه براحتيّ، أتأمل كل سنتيمتر من وجهه، لا حظت أنه أهمل عوارضا ولحية غير مرتبة، فسألته مازحاً: أتركتها للدين أم للدنيا؟!

سكت قليلاً وقال إنه لا يدري هو أيضا!

أخذته من يده ومشينا معاً، وبدون أن أدري وجدتني أقول له: لنتناول بعض الشاي هنا، كنا أمام مقهى شعبي على البحر لا أعرف لماذا كانت خطوتي تدفع بي وهو معي إلى مقهى شعبي على البحر، كانت إيقاعات الصوت الخليجي تتدفق عبر حناجر عوض الدوخي وحمد خليفة،

أفلَتَ يده من يدي  بلين ولكن بطريقة تدل على العزم وقال لن ندخل هذا المقهى، لنذهب مقهى مودرن قليلاً،

عاجلته قائلاّ: أي مقهى تريد؟!

استقررنا في "كوفي شوب" جميل، وراق مطل على البحر،

طلبت قهوة، بينما طلب صحن آيس كريم بالفواكه المشكل،.

 رمى نظره في البحر كما يرمي هواة الصيد سناراتهم، بعيداً بانتظار أن تأتي لهم بصيد ثمين.

سألته: لماذا هربت من الجلوس في المقهى الشعبي؟!

 قال: يوم ولدت وكنت في الشهور الأولى من عمري، عشت حياة يحكم أهلها أخلاق القهوة الشعبية أيام قهوة بوناشي وقهوة بن عقاب، لم نكن نضطر للذهاب لمقهى لنستعيد لها مكانا في الذاكرة، كنّا نأكل من فرنها رغيفاً طازجاً يحمل رائحتها، كنت أسمع من هم أكبر مني عمراً حينها يقولون إنهم لم يكونوا يجدون مثل تلك الحياة في متناول أبصارهم، كانوا يضطرون للذهاب إلى المقاهي الشعبية لاستذكار صورتها الخارجية فقط، الآن حتى هذه المقاهي تفتقد حس الصوَر! ثم جدّل آهة بقوله: برغم أننا دفعنا الثمن، إلا أننا لم نستطع أن نحتفظ، بأخلاق قهوة شعبية!