الأكثريات والأقليات
إذا أردت أن تعرف مدى تقدم الدول فانظر إلى حال الأقليات فيها، فهو المقياس الحقيقي لفشل الأمم أو نجاحها، إذ لا يمكن أن تترسخ قيم الدولة الحديثة من حقوق إنسان ومواطنة وديمقراطية دون صيانة حقوق الأقليات. وهناك فرق بين المفهوم السياسي للأكثرية والأقلية الانتخابية، التي تأتي بحزب الأكثرية إلى السلطة، وبين مفهوم الأكثريات والأقليات العرقية والدينية والمذهبية، التي تحل محل المفهوم السياسي في البلدان المتخلفة، لتسيس الهويات والانتماءات والقوالب الثابتة الماضوية، فتحل الدولة العرقية أو الدينية أو المذهبية محل الدولة الحديثة، الأمر الذي تسبب في إحداث الخلل البنيوي في الدولة ومؤسساتها السياسية والمدنية وفي ذهنيات مواطنيها.يصف عالم الاجتماع د. فالح عبدالجبار، هذا الزحف "للماضي على الحاضر" بـ"تحويل الأكثريات الديموغرافية الدينية - المذهبية إلى أكثريات سياسية دائمة، تزكي وتبرر وتشرعن هذا النوع من التحويل السياسي الذي يعود بنا القهقرى إلى عصر الملل والنحل، إلى عصر الدولة السلالية، الأسرية، الأبوية، المقدسة".
فالمجتمعات التي تسيس الدين والمذهب والعرق، تحمل بذور فناء الديمقراطية في أحشائها والتي لا تحمل سوى نقيضها الاستبداد، فهو أداتها في صراعها من أجل البقاء. وهو بالتحديد سبب السقوط المدوي للمشاريع الوطنية وأوهام "الوحدة الوطنية" في الدول العربية ذات المرجعيات الدينية والقومية والعرقية والأسرية التي تستمد منها مشروعيتها وبقاءها الأبدي الذي لا يؤمن بتداول السلطة أو مشاركة السلطة مع آخرين. وتلك "الأكثريات" (أو الأقليات التي أضحت أكثرية سلطوية) تحتكر الدولة وتؤدلجها وتفصّلها على مقاييسها، فالآخر هو الخطر الذي يتربص بوجودها وهويتها الثابتة التي تتحدد بقوالب ثابتة، والثبات لا يروم التطور والتقدم الذي تتسم به الهوية الحداثوية المتعددة المرنة المتحركة التي تعي أن إخفاقها في حماية الإنسان مجرداً من كل الهويات يعني نهايتها وتحول السلطة إلى الأقدر والأكفأ، فتعمل على احتواء التنوع والتعدد الذي يتساوى فيه المواطن والمقيم والإنسان دون تمييز أو عزل أو تهميش على أساس العرق أو الدين أو القومية. تعلمنا الحروب والدماء التي سالت على مر التاريخ أن الأمم لم تنهض ولم تستقر إلا حين ضمنت الأقليات حقوقها وحرياتها، إلا أن عالمنا الإسلامي والعربي والخليجي لا يزال غارقاً في وحل الأكثريات الطاغية، التي مارست كل أنواع العزل والاضطهاد سواء العرقي أو الديني أو القومي أو المذهبي أو الفئوي أو الجندري.إن الصراع السياسي في الدول الديمقراطية هو صراع مفيد وحيوي لتحرك المجتمعات وتطورها، أما صراع الطوائف في بلداننا فهو صراع الهويات الماضوية والكراهيات والإقصاء والتكالب على الحصول على الامتيازات، وإحلال نخبة من المتمتعين بالامتيازات بنخبة أخرى ليس إيماناً بالإنسان وحقوقه وحرياته. فما بالك بالفئات الأكثر تهميشاً بالمجتمع كغير المواطنين والعمالة الوافدة التي تهدر حقوقهم وكرامتهم بشكل منهجي، والذي تجلى في الكويت بسياسة الدولة مؤخراً بترحيل وتسفير الوافدين لمخالفتهم قوانين المرور... هل هناك فعلاً دولة في العالم (غير دولنا المستبدة) تعاقب من أتى إليها من أجل لقمة العيش بالإبعاد القسري لمخالفته قوانين المرور، بدلاً من تطبيق القوانين عليه دون تعسف أو ترويع أو ترهيب؟هي أزمة وعي وثقافة مجتمع يلبس أفراده أثواب الطوائف والأعراق والفئويات حتى أخفت كل ما هو إنسان بداخلهم، وفي دولنا لا نصرخ حتى تلمس النار أطراف أثوابنا.