أربع فتيات صينيات يجلسن على مسرح عادي مغمور، إحداهن تحمل الميكروفون والأخريات كل واحدة تحمل آلتها الموسيقية من الناي والطبلة والعود، يعزفن موسيقى أغنية «أنت عمري» لأم كلثوم.

Ad

أمر ممتع أن يسمع المرء أغنية عربية كلاسيكية بآلات قليلة تأتي نغمتها هادئة وشرقية من غير افتعال أو تكلف أو ضجيج، كأن الصينيات الرشيقات كن يحكن بالموسيقى الشرقية خيوط الحرير. مقدمة الأغنية الشهيرة معروفة أنها طويلة نسبياً وحيوية بامتياز، حاول من خلالها الفنان الكبير محمد عبد الوهاب إبراز قدراته الموسيقية في مواجهة قدرات أم كلثوم الصوتية، وأتت الأغنية كما هو معروف بعد جفاء بين «الست» و{موسيقار الجيل»، جفاء كان نتاج التنافس والغيرة وأمور أخرى. ذكر عبد الوهاب أن أول لقاء جمعه بأم كلثوم عام 1925 كان في منزل أحد الأثرياء حيث غنيا معاً دويتو «على قد الليل ما يطوّل» من ألحان سيد درويش. بعد ذلك، لحن لها أغنية «غاير من اللي هواكي قبلي ولو كنت جاهلة»، رفضت أم كلثوم أن تغنيها فغناها عبد الوهاب. ومن بداية الثلاثينيات وحتى أواخر الأربعينيات، كانت الصحف تلقبهما بالعدوين. وجرت محاولات للجمع بينهما، نجح بها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، عندما انتهز فرصة احتفالات أعياد الثورة الناصرية وعاتبهما على عدم قيامهما بأي عمل فني مشترك أثناء لقائه بهما، فوعداه بالعمل على ذلك وجاءت أغنية «أنت عمري» كأول عمل مشترك بينهما.

كان وقع «أنت عمري» بصوت أم كلثوم كوقع الأفيون في العقل، صوت تجويدي ممتع يختلج مع موسيقى لا تقل امتاعاً فتسافر الروح في مسافات لامتناهية. مع الفرقة الصينية هنا، تشعر بشيء من كوميديا مشهدية، الفرقة جديةً في تعاطيها مع الفن والموسيقى، تعزف بروحية العاشقة، لكن حين يصدح صوت المغنية، الذي بالكاد يناسب أغاني الأطفال، ينتبه المرء والسامع إلى المعنى الحقيقي لعبارة «أم كلثوم صينية»، يسقط تخيل «الديفا» الافتراضية ويبرز معنى أن رواد الـ{يوتيوب» كتبوا عبارة للسخرية والتهكم فحسب من عالم يضج بالعجائب والأفكار والاستنساخ، خصوصاً في الصين التي باتت كمارد يخيم على العالم بالأمور الاقتصادية والصناعية كافة. والمغنية الصينية التي لا نعرف حتى اسمها تزيد من شبحية الأمور، تقدم أغنية ضخمة بطريقة هشّة، ويبدو صوتها قزماً مقارنة بصوت أم كلثوم «الأصلي» المتعالي والسلطاني والتجويدي، الذي ما زال حتى الآن يسحر الملايين.

استنساخ

اللافت في المغنية الصينية انسجامها مع نفسها، كأنها عاشقة فعلاً للغناء، لكن هل كانت تسمع صوتها؟ هل قارنت بينه وبين صوت أم كلثوم؟ لا نعرف من أرشد تلك الفتاة الصينية لتغني بالعربية! ولماذا اختارت أغنية أم كلثوم الصعبة؟ ربما أقرب الوصول إلى الأمور التقرب من رموزها، أو هي تحب الأغنية وتجد فيها سعادتها وملاذ روحها. فأم كلثوم مثلها مثل كثير من الفنانين الكبار، تسحر من يهوى الغناء سواء من الفنانين المحترفين أو الهواة، من سلطان الطرب جورج وسوف إلى منى مرعشلي وفضل شاكر وفلة وآمال ماهر... وقدم الكثير من والهواة أغاني أم كلثوم بصوتهم بعضهم نجح وبعضهم أخفق، وذلك كله يأتي في محاولة لمجاراة صوتها ومحاورته. لكن المحنة أن صوت كوكب الشرق يمكث في مكان من الصعب الوصول إليه أو تجاوزه، إنه المحطة الكبيرة في تاريخ الفن العربي.

عموماً، يقدم بعض الأجانب أغاني عربية بأصواتهم، فتظهر نوعاً خلاسياً محبباً يجمع لهجات الشعوب من موسيقاها. كانت داليدا نموذجاً جيداً حين غنت بالمصري، وشكلت شاكيرا نوذجاً ثانياً في تقديمها أغنية لفيروز. لكن ما أقدمت عليه المغنية الصينية جاء مختلفاً تماماً، فهي تجيد العربية ولكن اختارت أغنية لا تناسب صوتها إطلاقاً، اختارت أفضل الأغاني العربية لتقدمها، فيما صوتها يبعث على الضحك، أو هي مثل البضاعة الصينية التقليدية والركيكة، والسخرية منها تأتي في إطار القول إن الصين تستنسخ كل شيء عبر صناعاتها، من الأدوات الكهربائية إلى حافلات النقل، والمدن والقرى الأوروبية والرموز الغربية عموماً، فقد نقلت هندسة بعض القرى الأوروبية العريقة كما هي إلى الصين. والاستنساخ اليوم بحسب كثير من الباحثين عَلَم على النفوذ الصيني، فالصين تفوقت على الاقتصادات الأوروبية والغريبة البارزة، وتستورد اليوم إنجازاتها المعمارية، تستنسخ الرموز والأشياء، لكن هل هي قادرة على استنساخ المواهب من الأدباء والشعراء والفنانين؟ هل تفكر الصين في إيجاد ماركيز صيني، إلتون جون صيني وليدي غاغا صينية؟ نحن أمام ضرب من الخيال العلمي، في زمن بات كل شيء غير مستبعد، فبلاد «ماو» والـ{كونغ فو»، كونفوشيوس وأسطورة التنين والسور العظيم، صنّعت كل شيء حتى «غشاء البكارة».