تحضر الشعوب يُقاس بثقافة سلوكها وأدائها اليومي في التعاطي مع بعضها في كل نواحي الحياة الاجتماعية التي يعيشونها، وتكشف عن مدى فهمهم لها، وعن عمق أصالة ترسخ جذرها الأخلاقي فيهم.

Ad

الثقافة ليست في بناء طرق وأنفاق وجسور لشوارع ومشاريع عملاقة عظيمة، لا يحترم من يسير فيها قانون السير وأخلاقيات التعامل مع الغير، ويتباهى في رعونة سافرة بمدى قدرته على كسر القوانين وتحديها، حتى وإن أدى تحديه إلى إزهاق أرواح عديدة لا يهمه أمرها طالما كان القانون تُداس هيبته من دون خوف أو وجل.

فما أهمية أن تُشيد دار للأوبرا أو مسارح ومكتبات ومتاحف ومعارض تشكيلية ومهرجانات فنية وندوات فكرية يُدعى إليها كبار المفكرين والأدباء والفنانين، ولا تأتي بثمارها، ولا بأي شكل كان، طالما كانت مجرد زينة أو حلية تتباهى بوجودها شعوب ليس لها أي علاقة راسخة متغلغلة فيها، أي انها ليست متجذرة في وعي تعاطي انعكس على سلوكها ومدى فهمها لها وتعاملها على هذا الأساس.

هناك أزمة وعي ثقافي حقيقي في مدى فهم دور كل أدوات الثقافة الموجودة لدينا، وما مدى تأثيرها وانعكاسها على سلوك وتعامل الناس معها، وما إذا كان لها دور إيجابي في رفع ودفع وتغير وتهذيب الطباع وأخلاقيات التعامل بشكل عام، أم انها لا تضيف لهم أي شيء وليس لها أي معنى أو دور يكرسها كوسيلة مهمة في بناء أخلاقيات الشعوب؟

وفي هذه الحالة كيف يكون بالإمكان تفعيلها وتشغيلها ونقلها من خانة الوجود الاسمي إلى الوجود الفعلي الفعال؟

فمثلا في الكويت الفئة العمرية الأكبر هم الشباب الذين تضيع طاقاتهم الرهيبة في تصرفات وأفعال مزعجة ضارة غير حضارية، وهناك استثناء منهم بالطبع الذين عرفوا كيف يستغلون وقتهم وطاقاتهم في ما يفيدهم ويفيد بلدهم.

هؤلاء الشباب يجب أن تعد لهم برامج توعية ثقافية جادة مفيدة ومنتجة بشكل عملي مكرس ومطبق على أرض الواقع وليس كحلم افتراضي، فهم النواة الحقيقة لغرس مفهوم عميق لثقافة التحضر.

وهنا يأتي دور المؤسسات والهيئات وجمعيات النفع العام ودور الرعاية الأهلية والحكومية وملاك الشركات ومجمعات الأبراج العملاقة، هؤلاء يقع على عاتقهم المساهمة في نشر وبناء وإعادة تأهيل لثقافة المجتمع ومن فيه، ففي كل البلاد المتحضرة نجد أن هناك دورا رياديا كبيرا في نشر الوعي الثقافي وتأصيله بين أفراد المجتمع، تقوم به المؤسسات العامة والفردية التي لا تنتظر فقط أن يقوم به القطاع الحكومي.

والشباب يعشق التقليد والتشبه بمن يحبه ويهواه، فلماذا لا تكون هناك أمثلة يقتدون ويتمثلون بها؟

سمو الشيخ محمد بن راشد حاكم الإمارات العربية المتحدة يضرب به المثل، حين يقوم بأعمال صغيرة الكل بإمكانه أن يقوم بها، كأن يزرع شجرة ويطلب من الناس أن يقوموا بزرع مثلها، وإرسال صورهم له على تويتر، وقد قام الكثير منهم بزرعها وإرسال صورهم وهم يزرعونها، وفي عيد رأس السنة طلب منهم إعطاء هدية لعمال النظافة سواء في المنازل أو في الشركات والمؤسسات وغيرها، وقد بادر الأغلبية إلى القيام بها وإرسال صورهم له عن طريق تويتر.

وهناك الشيخة أمثال الصباح التي تقوم بتنظيف الشواطئ والجزر بمساعدة طلاب المدارس، وأيضا مؤسسة لوياك وإن كنت لا أعلم إن كانت مؤسسة ربحية أم لا؟

يا ليت تكثر وتزداد هذه النماذج لكي تصبح مثالاً يحتذي به الغير لتكريس سلوك ثقافة حضارية اجتماعية الشباب بأمس الحاجة إليها، فحين تكثر نماذج الشباب المقتدى بهم، خاصة أصحاب البلوقات على الإنترنت وفيسبوك وانستغرام وتويتر الذين يكرسون وقتهم للترويج لثقافة الاستهلاك لتجار المطاعم والملابس، وبالتالي يقودون الشباب خلف الاستهلاك الذي يستنزف دخولهم لتصب في جيوب تجار الجشع الذين لا هم لهم إلا شفط الأموال وتكديسها في مزيد من المشاريع الاستهلاكية التي لا تنتج وعيا ثقافيا حضاريا جادا، بل تساعد وتدفع بتوسيع هوة التفاوت الاقتصادي ما بين الطبقات.

أتمنى أن يكثر عدد أصحاب المواقع ذات القدوة الشبابية حتى يتبعهم بقية الشباب من الذين يتمثلون بهم، وأن يوجهوهم للتصرفات والأعمال الخيرة الإيجابية التي تبني الإنسان والأوطان، والتي تدل وتشير إلى مفهوم ثقافة وطن متحضر بجد.