اشتعال ثورات ما بات يُعرف "بالربيع العربي" أوجد واقعاً جديداً على الأرض، جعل الحدث السياسي العسكري هو الحاضر الأكبر، وصبغ المشهد اليومي بالعنف والدم والوجع والخيبة، وأدخل الشعوب العربية في دهليز ممر صعب تملؤه المحن والعثرات والمخاوف، وقد يطول به المسير، وربما لعقود.

Ad

شهداء أبرار دفعوا حياتهم ثمناً لحلمٍ صعب المنال، وآلاف استوطنوا العراء، تطلّ في نظرة أعينهم وعلى جباههم كلمة لاجئين، وتوزعت وضاعت آلاف أخرى في شتى بقاع الأرض. لكن متضرراً آخر كتم أنفاسه تحت سطح الوجع، ومازال كذلك، وأعني به الثقافة العربية.

إن تجلي الحياة اليومية للمواطن العربي، في حربه الضروس للهرب من الموت، وسعيه المحموم للظفر بلقمة العيش، وإصراره على نيل حريته وكرامته وشيء من عدالة اجتماعية، جعل من الثقافة والمثقافة أمرا خارج اهتمامات اللحظة الراهنة، وصيّر أهلها في الظل. فمن ذاك الذي يواجه الموت ويفكر في الآن نفسه بقراءة رواية أو قصة أو قصيدة؟ وأي لوحة تشكيلية تعدل بسرياليتها سريالية منظر المدن العربية، الضاجة بمئات المتظاهرين، والمصطبغة بلوعة الفقد، وصراخ الموت، ولون الدم القاني، ونيران الحرائق وأعمدة الدخان، وعواصف الأتربة!

أغلقت مئات دور النشر والمكتبات العربية أبوابها، ودُفنت الكتب تحت الأنقاض، وغدا التفكير بطباعة كتاب جديد أقرب من يكون إلى الدخول في مغامرة عبثية. وصار الاتصال والوصل مع أي ناقد عربي للحديث حول الكتابة عن كتاب، يتطلب جراءة لا يتوافر عليها أكثر الكتّاب صفاقة، خاصة إذا كان الناقد من سورية أو مصر أو العراق أو تونس أو اليمن أو البحرين أو الأردن أو الجزائر!

ما الذي يعنيه الكتاب في مواجهة الموت؟ وأي ناقد ذاك الذي يتجاهل آلام أبناء بلاده والضياع الذي ينتظرهم عند المنعطف، لينغمس في كتابة نقدية؟ لقد أصاب الربيع العربي الثقافة العربية، وتحديداً الكتابة الإبداعية والنقدية في مقتل، وانتقل بها لتكون بطراً لا يليق بلحظة تخلق وطناً عربياً جديداً لم تتشكل معالمه بعد!

إن صبر المواطن العربي على أنظمة دكتاتورية قمعية امتد عقودا، ذاق خلالها أصناف الهوان والذل والقمع والسجن والتنكيل والقتل، وحين انطلقت الثورات العربية مع بداية عام 2011، لم تكن ثورة حزبية، ولا ثورة منظرين، ولا كانت ثورة يتزعمها مفكرون برؤية ثورية، بل كانت ثورة جياع، جياع للحرية والكرامة والديمقراطية، وأخيراً جياع للحياة البسيطة التي يعيشها أي إنسان في أي مكان في العالم!

ولأن ثوب الثورات العربية كان ثوب المواطن العادي، وكان صوتها ولونها ومسيرها، فإنها جرفت في طريقها كل مناحي الحياة، وجعلت جميع المواطنين العزل مشاركين في أحداثها، ورمت، بقصد أو دون قصد، بكل المنظرين ومعهم أهملت الكاتب والفنان!

أجمع المحللون على أن الثورات العربية خرجت من عباءة ظلم الأنظمة الدكتاتورية، وكانت في بداياتها تُقاد بجهد الشباب العرب المنظمين وعبر وسائط الشبكة العنكبوتية، لكنها سرعان ما خرجت عن إرادتهم، وصار المواطن العربي يحتل الشارع، ويحمل البندقية ويرمي بنفسه في تنور الحدث الدائر.

الثقافة العربية، وصناعة الكتاب أحد أكبر المتضررين من الثورة العربية، فحياة الناس في ظرفهم الراهن والمتفجر والمخيف والغامض أبعدتهم عن ترف القراءة وترف متابعة الحدث الثقافي، وكان أول من أصابهم الشرر هم الكتّاب، وأصحاب دور النشر.

مؤكد أن جهداً منظماً ومدروساً يأتي على أولويات سلم القائمين على الثقافة العربية، في كيفية معالجة الوضع، وإتاحة الفرصة للمفكر والكاتب والفنان لأن يعود ليأخذ مكانه بين الجموع، فمخطئ تماماً من يعتقد أن الكاتب لم يكن محرِكاً أساسياً وسرياً وراء كل ما جرى!