«التعلّم التكيّفي»... ثورة في المعرفة
تخيّل لو أن كل طالب يحظى بمدرّس شخصي لا يكلّ، رفيق لا يتعب يتمتع بذكاء اصطناعي يدرك الأمور كافة بطريقة سحرية، يعرف الطالب جيداً، ويساعده في تعلّمه كل ما يحتاج إليه. يذكر خوسي فيريرا، مدير شركة Knewton التي تعمل في مجال تكنولوجيا التعليم: {تتكلمون عن المستقبل، كما يبدو. غالباً ما تكون هذه العبارة ردّ الفعل الذي نتلقاه من الآخرين في هذا المجال}. التفاصيل من {نيوز ويك}.
عندما التقيت فيريرا للمرة الأولى منذ أربع سنوات، بدا هذا مجرد حلم آخر من أحلام «وادي سليكون»، يودّ مؤسس شركة تكنولوجيا جديدة تحقيقه، لكنه يستطيع اليوم تقديم إثباتات على ما يدّعي أن شركته تستطيع إنجازه: ملايين من نقاط البيانات يولّدها يوميّاً واحد من مليون طالب من المدرسة الابتدائية إلى الجامعة، مستخدماً تكنولوجيا «التعلم التكيفي» لتعلّم الرياضيات، القراءة، ومواد أساسية أخرى. أخبر بيتر ثيل، أحد مؤسسي PayPal، مستثمر في فيسبوك، وأحد أول المستثمرين في Knewton، موظفي هذه الأخيرة أن هذه الشركة الناشئة تتميز بخاصيتين أساسيتين يبحث عنهما عند عقد كل صفقة. قال: {قبل أن تتحقق الفكرة، يظن الجميع أنها مستحيلة. وبعد ذلك، يكون الأوان قد فات بالنسبة إلى كل مَن يحلمون بها لأنها باتت واقعاً ملموساً}.تلقى فكرة {التعلّم التكيفي}(Adaptive learning) رواجاً أكبر اليوم، وتشير إلى برامج إلكترونية تعليمية تعدّل عرضها المواد بين لحظة وأخرى وفق ما يدخله المستخدم. ويعتبرها المستثمرون والشركات في مجال التعليم اليوم {ثورة}.
في فصل الخريف المقبل، ستصبح تكنولوجيا Knewton هذه متوافرة في عدد كبير من المدارس والكليات والجامعات في الولايات المتحدة، من خلال شراكة جديدة مع ثلاثة من كبار ناشري الكتب المدرسية: Pearson، MacMillan، وHoughton Mifflin Harcourt. وقد قام فيريرا بكل هذا مع أنه يقول إن المستثمرين والمنافسين (هذا إن لم نأتِ على ذكر الناس والصحافة) لا يعلمون حقّاً ما تستطيع Knewton تحقيقه.بعدما تخرّج في جامعة كاريلتون في مينيسوتا، حيث درس الفلسفة والرياضيات، واجه فيريرا صعوبة في العثور على عمل مع ركود مطلع تسعينيات القرن الماضي. فعمل خلال إقامته في سان فرانسيسكو كمدرس يساعد التلامذة في الاستعداد لامتحان {سات} (اختبار الكفاءة الدراسية) في {كابلان}، الشركة الكبرى للاستعداد للامتحانات الرسمية. يخبر: {دخلت معترك التعليم لأنني أعشق التحديات الذهنية. حتى إنني في مرحلة ما اجتزت كل الاختبارات المتوافرة، مثل السات، GRE، GMAT، وMCAT، ولم تكن غايتي من ذلك كله سوى المتعة}.وسّع فيريرا حبه للتحديات الذهنية لتشمل فن إجراء الامتحانات العامة وعلمها والتفوق فيها، أو بالأحرى مساعدة الآخرين في التفوق فيها. لم يعتبر ذلك غشّاً، بل تصحيح ظلم يتعرض له أولاد أمثاله، أولاد أذكياء إنما كثيرو التململ يتوقف مصيرهم على اختبار عشوائي مدته ثلاث ساعات.لكن ثقته وحبه للمخاطرة عادا عليه بفوائد جمة. فخلال عمله في كابلن، اكتشف فيريرا عيباً في امتحانات GRE حولها من امتحان رياضيات بالغ الصعوبة إلى لعبة أطفال. وقد أرغمت هذه الهفوة إدارة خدمات الاختبارات التعليمية التي تعدّ هذا الامتحان، على حذف قسم كامل من الأسئلة. حتى إنهم صاروا يلقبون مخرّب هذا الاختبار في أحاديثهم الخاصة بـ{ضد المسيح}. يذكر فيريرا وعلامات الفخر واضحة على محياه: {اضطروا إلى إلغاء هذا القسم من الاختبار. وقد أقروا بما حققته علانية. كانت هذه المرة الوحيدة التي يقرون فيها علانية أن شخصاً ما تفوّق عليهم}. وقد حولت شركة كابلن إقرار هذه الإدارة إلى أساس حملة تسويق دولية لخدماتها. {وضعنا ذلك الإقرار على كل ما أرسلناه منذ ذلك الحين. حتى إن الممرضات في الفلبين تلقين بطاقات بريدية عنه}.كان من الممكن لفيريرا أن يبقى في كابلن، محققاً مناصب أعلى، إلا أن فجر عالم المعلوماتية كان ينبلج. فأسرته قوة التكنولوجيا في تحويل التعلّم والتعليم والتحق بكلية هارفارد للأعمال. بعدما حصل على شهادة MBA، انتقل للعمل في بنك غولدمان ساكس، لكنه ما لبث أن استقال ليؤسس شركة تعدّ برامج إلكترونية لرسم الخرائط. إلا أنها انهارت في أزمة عام 2000. عندئذٍ انتقل للعمل كإستراتيجي في حملة جون كيري الانتخابية (فهو أحد أقارب تيريزا هاينز كيري)، لكن عشقه للمغامرة لم يخبُ.يخبر فيريرا: {كنت أملك الكثير من الأفكار عن التعليم التي تعتمل في رأسي منذ زمن. لذلك وصلت إلى مرحلة قررت فيها اتخاذ خطوات حازمة}، فأسس عام 2008 شركة Knewton، واضعاً أمامه الرؤية ذاتها التي يعمل عليها اليوم: إتاحة المجال أمام التكنولوجيا الرقمية لتسهّل التعليم للجميع وبناء شركة تسيطر على عملية التغيير هذه.أخبرني فيريرا خلال أحد لقاءاتنا الأولى في مؤتمر عن التكنولوجيا عام 2009: {تأمّل المجالات الأخرى التي بدّلتها التكنولوجيا. فقد قوّضت وسائل الإعلام وها هي اليوم تعيد بناءها، من الطباعة إلى الرقمي والفيديو والموسيقى. لاحظ تأثيرها في السفر، الفنادق، المطاعم، والبيع بالتجزئة، فضلا عن كل ما يشمل المعلومات. ولكن لسبب ما لا يرى الناس تأثيرها في التعليم، إنما أدرك تماماً أن تأثيرها هذا لن يتأخر. فكل المحتويات التي تُستخدم في التعليم ستصبح متوافرة على الإنترنت في غضون 10 سنوات. تشكّل هذه فرصة كبيرة عليك السعي إلى إستغلالها. إنها تبدّل حذري ضخم، وهذا ما ستعمل عليه شركة Knewton}.توصيات شخصيةيشكّل محرك التوصيات (recommendation engine ) تكنولوجيا أساسية في عالم الإنترنت قد تصادفها في حياتك اليومية، فيستخدم موقع غوغل التوصيات: نقر آخرون وأدخلوا مصطلحات البحث ذاتها على هذه الصفحة، لذلك يعرضها لك أولا، ويعتمد عليها موقع Amazon أيضاً: فمن اشتروا هذا الكتاب ابتاعوا أيضاً ذلك الكتاب. وكذلك Netflix: أحببت Bringing Up Baby فستحب على الأرجح The Seven-Year Itch.إذاً، كلما استخدم أحد هذه المواقع، ازدادت معرفته بك. ولا تقتصر معرفته هذه على سلوكك الراهن، بل تشمل أيضاً الأبحاث والصفحات التي دخلتها. هكذا، كلما أمضيت الوقت في موقع ما، تصبح توصياته نظريّاً أكثر شخصية، مع أنها تعتمد في الوقت عينه على تفاعل الآخرين مع هذه المنصة.ترتكز Knewton أساساً على محرك توصيات مخصص للتعليم. فبدل الاعتماد على كل مجموعات صفحات الإنترنت أو كل الأفلام، تقوم بيانات التعلّم إلى حدّ ما على عالم الوقائع. على سبيل المثال، فقد تكون وحدة البيانات في المحرك، الواقع الرياضي أن معدلات جوانب مثلث فيثاغورس توازي 3-4-5، وأنك تستطيع ضرب هذه الأرقام بأي أرقام كاملة أخرى لتحصل على مجموعة جديدة من طول الجوانب لهذا النوع من المثلثات. قد تكون وحدة البيانات أيضاً {أداة وصل{مثل {لكن}، {و}، أو {ثم{التي تشكّل رابطاً بين الجمل. يدعو فيريرا هذه الوقائع {مفاهيم ذرية}، أي أن من المستحيل تجزئتها إلى مفاهيم أصغر، علماً أن فيريرا يهوى هذه التشابيه الفيزيائية.عندما تحمّل دار نشر مثل Pearson مقررها التعليمي على منصة Knewton، يُربط كل جزء من المحتوى (سواء كان فيديو، سؤالاً في اختبار، أو مقطعاً من نص) بالمفهوم أم المفاهيم المناسبة.لنفترض أن مدرستك اشترت نظام MyMathLab الإلكتروني الذي تعده Knewton، واستخدمت مقرراً خاصاً يستند، مثلاً، إلى Basic College Mathematics 8e من سلسلة Lial. عندما يدخل طالب هذا النظام، يخضع بادئ الأمر إلى اختبار أولي من الكتاب يرتبط {بالمفاهيم الذرية{الملائمة. وفيما يروح الطالب يقرأ الاختبار أو يشاهد شريط الفيديو ويجيب عن الأسئلة، {يقرأ{نظام Knewton بدوره الطالب، فيحدد الوقت الذي يحتاج إليه لإنجاز كل مهمة، يسجّل كل نقرة، ويعدّ ملفاً عن نمط التعلّم المتبع: فهل الطالب متردد أو واثق من أجوبته؟ هل يجيب بشكل عشوائي أو يأخذ وقته ويفكّر؟ وهكذا بالاستناد إلى أجوبة الطالب وما قام به قبل إعطاء الأجوبة، {يمكننا أن نطلع بدقة على المعلومات المتعلقة بكل مفهوم: سرعة تعلّمه، مدى إتقانه، كم سيبقى محفوظاً في ذهنه، ومدى احتمال تعلمه مفاهيم مشابهة}، وفق فيريرا. ويضيف: {أؤكّد لكم أن معظم الناس يظنون أن هذا مستحيل. يظنون أنني أتحدث عن أمر خيالي}. من خلال مراقبة الطالب وهو يتفاعل معها، تخمن المنصة، مثلاً: {إذا تعلمت المفهوم رقم 513 في الصباح بين الثامنة وعشرين دقيقة والتاسعة وخمس وثلاثين دقيقة مع 80% من النص و20% من الوسائط الغنية ولم تحتج إلى أكثر من 32 دقيقة، فمن المحتمل أن تتعلم من المفاهيم المرتبطة به ارتباطاً وثيقاً بالطريقة ذاتها}.تشكّل هذه المنصة خطة تعلّم خاصة بالاستناد إلى تلك المعلومات وتقرر علامَ يجب أن يعمل الطالب بعد ذلك. فتقدّم له المحتوى الجديد الملائم، وتتابع في الوقت عينه التقدّم الذي يحققه. وتُظهر لوحة للطالب عدد {نقاط الإتقان{التي حققها وما عليه فعله بعد ذلك. على نحو مماثل، يستطيع المدرّس أن يُلاحظ المفاهيم التي يواجه الطالب صعوبة في تعلّمها. فلا يكتفي المدرّس بتصحيح الواجبات المنزلية، بل يمكنه الاطلاع على الوقت الذي استغرقه إنجازها، المحاولات التي بذلها الطالب، مقدار المساعدة التي احتاج إليها، وما إذا كان اكتفى بقراءة النص أو استعان بشريط الفيديو للحصول على شرح ملائم.وكلما استخدم الناس هذا النظام، ازداد فاعلية. وكلما استخدمه الطالب، ازداد تكيّفه معه.في غرفة الصف التقليدية، يقدم المدرّس لمجموعة من الطلاب المواد وفق تسلسل محدد مسبقاً وبوتيرة واحدة. أما ردود الفعل، فتأتي متأخرة لأنك لا تقوم بالواجبات المنزلية أو الامتحانات المفاجئة إلا بعد يوم أو اثنين. نتيجة لذلك، يشعر بعض الطلاب بالسأم، في حين يقع آخرون بحيرة. كذلك من الممكن ألا تفهم فكرة أساسية، تتأخر عن سائر زملائك، وتعجز عن اللحاق بهم.لكن التعلّم التكيفي، الذي يستند إلى برامج إلكترونية، يقلب كل هذا رأساً على عقب، فيستطع الطالب التقدّم وفق مقدراته الخاصة. كذلك يحصل على مساعدة وردود فعل فورية. وبإمكان المدرّس في هذا الوقت أن يخصص الوقت الذي يمضيه في الصف لمساعدة أفراد محددين أو مجموعات صغيرة وفق ما يراه مناسباً.يستطيع فيريرا العمل مع دور نشر متنافسة، مثل Pearson وWiley، لأن برنامجه الإلكتروني يحوّل المحتوى التعليمي لأي منها، تماماً كما أن Amazon Web Services تقدّم خدماتها لأي موقع إلكتروني تستضيفه على سحابتها الإلكترونية. ولكن قبل أن تتشارك Knewton مع دور النشر، بنت مقرر رياضيات خاصاً بها، مستخدمةً منصتها الإلكترونية لتؤكد مدى فاعليته. وقد اعتمدت جامعات: ولاية أريزونا، نيفادا بلاس فيغاس، ألاباما هذا المقرر، Math Readiness، في مطلع صيف 2011.ارتفاع معدّل النجاحفي جامعة ولاية أريزونا، عمل الطلاب على المواد التي قدمها لهم برنامج Math Readiness بمفردهم أو ضمن مجموعات صغيرة، في حين أمضى المدرّسون الوقت في مساعدة طلاب محددين على حلّ المسائل، التفكير بتسلسل، وفهم بعض المفاهيم الدقيقة. وبعد مرور فصلين على استخدام هذا البرنامج الذي أعدته Knewton، تراجع معدّل توقف الطلاب عن متابعة المقرر بنسبة 56%، في حين ارتفعت نسبة النجاح من 64% إلى 75%. في ألاباما، ارتفعت معدلات النجاح من 70% إلى 87% أما في جامعة نيفادا بلاس فيغاس، حيث سُمح للطلاب بدرس هذا المقرر عبر الإنترنت خلال الصيف قبل بدء الدروس، فارتفعت نسبة مَن تأهلوا لأخذ مقرر علم الجبر من 30% إلى 41%.ذكرت أيرين بلوم، محاضرة متخصصة في الرياضيات في جامعة ولاية أريزونا، لمدونة تُعنى بالتعليم حين سئلت عن هذا البرنامج الرائد: «قبل ذلك، كنت أفترض أن الطلاب يتمتعون بالقدرة ذاتها. أما اليوم، فأعمل وفق مقدرات كل منهم بما أنهم يتقدّمون بمعدلات مختلفة. صرت أملك معلومات أوسع عما يفعله طلابي أو لا يفعلونه خارج الصف. يمكنني اليوم أن أميّز ما لا يفهمونه، مدى سرعة تقدّمهم، والجهد والوقت اللذين يخصصونهما لتعلّم الرياضيات». يستخدم نظام Knewton مقدراته التحليلية ليشجّع الطالب، فإن لاحظ أنك تعاني مشكلة ثقة لأنك تخفق غالباً في الإجابة عن أسئلة تبدو سهلة بالنسبة إليك، نظراً إلى نتائجك السابقة، يطلب منك أولا الإجابة عن أسئلة يدرك أنك لن تخطئ فيها على الأرجح. وإذا لاحظ أنك تواجه صعوبة كبرى لأنك لا تنفك تختار الجواب الخطأ، يقدّم لك تلميحات أوسع قبل أن يعرض لك الجواب الصحيح. كذلك يميز هذا البرنامج متى عليك العمل بكدّ على مسائل صعبة ومتى تحتاج إلى بعض الترفيه بمشاهدة فيديو ممتع.تبيّن أن إعطاء المقررات طابعاً شخصيّاً يسرّع التعليم، فخلال السنة الأولى، أنهى 45% من طلاب جامعة ولاية أريزونا مقرراً مدته 14 أسبوعاً، قبل الوقت المحدد بأربعة أسابيع. يذكر فيريرا الذي يبدو مصمماً على تحرير الطلاب الذين يسأمون بسرعة مثله: «حتى إن بعض الطلاب أنهوا فصلاً بأكمله في غضون 14 يوماً. منذ بدء تاريخ البشرية حتى اليوم، كان هؤلاء الطلاب يرغمون على البقاء في الصف طوال الوقت».علاوة على ذلك، تقدّم هذه البيانات الأكثر إتقاناً خيارات أكبر للطلاب الذي رسبوا أيضاً. قد لا يتعلم هؤلاء الطلاب ما يكفي لينجحوا في الامتحان النهائي، إلا أن قراءة دقيقة لأجوبتهم تُظهر أنهم يحققون تقدماً بطيئاً إنما منتظماً. يذكر فيريرا: «في الماضي، كان هؤلاء الطلاب يتركون الجامعة». واللافت أن غالبية الطلاب الذين اتبعوا هذا البرنامج في هذه الجامعة الحكومية لا يحصلون على شهادتهم في النهاية. «ولكن بات من الممكن اليوم المطالبة بالسماح لهم بإعادة هذا المقرر لفصل إضافي، ما يعني أن حياتهم برمتها قد تبدّلت».الكتب جزء من الماضيفي غضون خمس إلى 10 سنوات، ستصبح الكتب والدفاتر الورقية جزءاً من الماضي، وستتحول التمارين في الصف والواجبات المنزلية (نص، تسجيل سمعي، فيديو، ألعاب) إلى جهاز iPad أو ما يعادله. ولا شك في أن التعلّم التكيفي سيساعد كل مستخدم في العثور على المحتوى الذي يحتاج إليه بالتحديد بالصيغة التي يرغب فيها وفي الوقت المناسب، وذلك بالاستناد إلى أنماط استخدام سابقة.في عصر تضخم الأعداد في الصفوف وتسريح المدرّسين واتساع حاجات التلامذة الخاصة وتبدّل أساليب التعليم، يرّحب بعض المصلحين بهذه البرامج الإلكترونية، باعتبارها منقذاً يمكنه أن يجعل التعلّم أكثر ملاءمة والتعليم أكثر فاعلية. صحيح أن نقاط الخلاف تبدو واضحة في عملية إصلاح المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، خصوصاً في مسائل التعليم الأساسية، إلا أن التجديد الرقمي يحظى بمعجبين من الفئات السياسية المختلفة بسبب قدرته على التفاعل مع التلميذ وإدخال غرفة الصف إلى القرن الحادي والعشرين.إليك ما يظن فيريرا أن طريقة التعليم هذه التي تستند إلى برامج إلكترونية تستطيع تحقيقه. يذكر: {تظهر الإحصاءات اليوم أن 22% فقط من الناس حول العالم ينهون تعليمهم الثانوي أو ما يعادله. وهذا محزن حقّاً. فيمكن في جيل واحد أن نقترب من 100% بدون تكبّد كلفة باهظة}.على غرار كثيرين ممن يعملون في عالم التكنولوجيا، يشعر فيريرا بالاستياء من نظام التعليم الحالي. يوضح بصوته المنخفض الهادئ الذي يكاد لا يُسمع بسبب هدير مكيفات الهواء على سطح مقر شركة Knewton في ساحة يونيو في مانهاتن بالولايات المتحدة: {أعتبر المدرسة مملة ومحبطة جدّاً}. توظّف هذه الشركة العمال بأسرع ما يمكن. يجلس فيريرا، الذي كان ينتعل خفين ويرتدي قميصاً قطنيّاً وسروالا قصيراً، في مكتب يضم آلة لإعداد القهوة وأنواعاً عدة من المشروبات. ويوم زرته، كان الموظفون قد حملوا معهم أكياساً من البروكولي لتناول غداء جماعي.يخبر فيريرا: {يشبه نظام التعليم المعتمد اليوم بيروقراطية ضخمة، ويلائم هذا النظام بعض الأولاد، بخلافي أنا. يعطيك هذا النظام علامات متدنية وينعتك بالغباء. فلا يخطر في بال أحد أن هذا الولد لا ينجح في دروسه لأن النظام خاطئ}.ورث روح التمرد هذه، إلا أن عائلته مارست عليه ضغوطاً كبيرة ليحقق النجاح. فوالدا فيريرا يتحدران من أصول أفريقية بيضاء، قدما إلى الولايات المتحدة عندما كان في الثانية من عمره، بعدما أدت مشاركة والده في النشاطات السياسية المناهضة لنظام الفصل العنصري {إلى طرد العائلة} من جنوب أفريقيا، وفق فيريرا. فأقاموا في منطقة تشيفي شايس في ماريلاند، حيث ذهب إلى مدرسة حكومية ممتازة، إلا أنه اعتبرها مملة. كان من التلامذة الذين يعذبون المدرّسين بأسئلتهم المتذاكية، يمتنعون عن إنجاز الواجبات المنزلية، ويراجعون كل المواد في ليلة قبل يوم الامتحان.استثمارات في التكنولوجيايبلغ الإنفاق العالمي على التعليم تريليونات الدولارات، لكن الطلب ما زال يفوقه بأشواط.وصلت الاستثمارات التي خُصصت للتكنولوجيا المرتبطة بالتعليم 1.1 مليار دولار عام 2012. فقد أطلق روبرت مردوخ قراراً رقميّاً يعتمد على الأجهزة اللوحية قيمته 200 مليون دولار. وتعمل كل من شركتَي آبل وغوغل على تطوير أجهزة وتطبيقات بالغة الأهمية خاصة بمجال التعليم. كذلك جمع سيباستيان ثرون ودافني كولر وأندرو أنجي، جميعهم أساتذة في جامعة ستانفورد، نحو مئة مليون دولار لإنتاج منصتَي التعليم على شبكة الإنترنت Udacity وCoursera، اللتين تقدّمان أشرطة فيديو مجانية عن مقررات أُعدّت في أشهر جامعات العالم. أما {أكاديمية خان}، مكتبة لا تتوخى الربح تضم لقطات فيديو تعليمية وتمارين عبر شبكة الإنترنت، فتحظى بأكثر من 6 ملايين مستخدم وتُستعمل في أكثر من 30 ألف صف. ويُعتبر بيل غيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت، أكثر مَن ساهم على الأرجح في زراعة بذور التطوّر في مجال التعليم، متبرعاً بمئات الملايين لمؤسسات تتوخى الربح أو لا تتوخاه من خلال برامج التعليم في مؤسسة غيتس. فخلال مداخلته في SXSWedu، مؤتمر فرعي تابع لتجمع South by Southwest التكنولوجي في أوستن بتكساس المخصص للابتكارات التكنولوجية الخاصة بالتعليم والثقافة، قارن غيتس الثورة الرقمية في التعليم باكتشاف لقاح الشلل.لا تزال هذه التطورات في بدايتها، إلا أن الأسئلة بدأت تتراكم: هل تتمكن كل هذه الابتكارات من تضييق فجوة الإنجازات بين الأغنياء والفقراء وبين البيض والسود؟ هل تتمكن من خفض كلفة التعليم الجامعي أو الحدّ من قروض الطلاب الكبيرة؟ والأهم من ذلك، هل تتمكن التكنولوجيا من تعزيز العناصر البشرية في التعليم؟ فقد أظهرت الأبحاث أن الصفات العاطفية، مثل العزم، المثابرة، والحافز، قد تكون أكثر أهمية في نجاح الطالب من المعارف أو المهارات التي يكتسبها. ولا شك في أن هذه كلها تعتمد على العلاقات الإنسانية.يبدو أن اكتساب المعارف الوجه الوحيد من أوجه التعليم الكثيرة الذي تستطيع التكنولوجيا الرقمية التكيّف معه. تركز كل التطبيقات والمنصات والألعاب الإلكترونية، حتى Knewton، على نقل كميات من الوقائع في مجالات مثل الرياضيات، العلوم، أو الهندسة، فضلا عن أسس القراءة والكتابة والقواعد. فلا تستطيع منصة تعليم تكيفي، مثل منصة Knewton، تحديد أو تحليل مشاركة الطالب القيمة في النقاشات التي تدور في الصف، القيمة الأدبية العالية لمقال ما، أو إبداع عرض تقدّمه مجموعة. فكل هذه المهام المعقدة تطلب تمييزاً بشريّاً.على رغم ذلك، تحقق ابتكارات مثل منصة Knewton نتائج محيّرة في هذا المجال الفرعي من نقل المعارف أو ما اعتدنا تسميته {التعليم}. ففيما تسعى المؤسسات التي تُعنى بالتعليم إلى رفع المعايير، يسعى كثيرون إلى التأكيد أن الطالب يتقن ما يتعلمه، ولا يكتفي بتغطية المواد فحسب.تخطط Knewton لإطلاق منصة في مطلع السنة المقبلة تتيح لأي شخص تحميل أي مواد تعليمية من الإنترنت، سواء كانت درساً يعطيه الأستاذ بحد ذاته أو أحد مؤتمرات TED talks أو مجموعة من تمارين أكاديمية خان. (حتى اليوم، لم يكن هذا البرنامج الإلكتروني متاحاً إلا لناشري الكتب المدرسية). كذلك ستعتمد عملية ربط المحتويات بـ}مفاهيم ذرية{على المستخدمين أيضاً. وإن تجاوب الناس مع هذه المبادرة، فسيساهم محرك التوصيات الخاص بشركة Knewton في تنظيم عالم الموارد التعليمية المجانية والمفتوحة، مقدّماً بالتالي تجارب تعليمية أغنى لكل مَن يرغب ومجانية أيضاً.قد يتبيّن أن فكرة التعليم كتجربة لا تحتاج إلى وسيط ويمكن تجزئتها، تجربة معدّلة خالية من الشوائب، إذا كان معدّل نقل البيانات كافياً، تماماً مثل تنزيل أغنية أو مشاهدة فيديو على موقع YouTube، مجرد وهم وحلم في بداية العصر الرقمية، العصر الذي نعيش فيه اليوم. لكن الوعد بوضع كل البيانات المتوافرة، المحتوى الغني، وأساليب التحليل بين يدي مدرّسين موهوبين وطلاب بارعين، ما يحررهم جميعاً لاتباع طريقتهم الشخصية ووتيرتهم الخاصة، قد يصبح إنجازاً ضروريّاً وممكناً نظراً إلى ما رأيناه حتى اليوم.وفي لحظة تواضع نادرة يقر فيريرا: «تبقى Knewton في النهاية مجرد أداة}.