فجر يوم جديد: أفلام وألغام في دبي (4- 4) «بيكاس»
![مجدي الطيب](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1458322261627985900/1458322269000/1280x960.jpg)
أخطأ المخرج بالطبع عندما تصور أن كلمة «بيكاس» معروفة ومتداولة فاختارها عنواناً لفيلمه، وتركنا نبحث في «القواميس» عن تعريف دقيق للكلمة، وبالكاد علمنا أنها تعني باللغة العربية «اليتيم» أو «من لا أهل له»، وهو ما ينطبق بالفعل على الطفلين الكرديين اليتيمين، اللذين ضاقت بهما سبل الرزق، وأغلقت الحياة أبوابها في وجوههما، وبعقلية الأطفال، وهيمنة الخيال على مشاعرهما، صارا يحلمان بالسفر إلى أميركا ليلتقيا «سوبرمان» القادر، حسب مفهومهما الطفولي القاصر، على إحياء الموتى (والديهما) وطرد الأعداء (جيش «صدام»). جاء الحديث عن صدام بشكل عابر، لكن زمن أحداث الفيلم (تسعينيات القرن الماضي) أحالت المتلقي فوراً إلى جريمة «الأنفال»، التي أودت بآلاف الأكراد في عمليات إبادة جماعية العام 1988، وتحمل مسؤوليتها التاريخية نظام «الديكتاتور»، وهي معلومة لن تُربك عملية التلقي في حال الجهل بها، لأن السيناريو توافرت له عناصر الإثارة كافة والتشويق والتعاطف والتوتر التي جعلت منه وثيقة سينمائية، وشهادة حية على معاناة «الأكراد»، وحياة الفقر والبؤس التي عاشوها في ظل نظام قمعي لا يعرف سوى الإرهاب. في «بيكاس»، يلجأ الطفلان إلى «مسح الأحذية» والتصعلك، وهما يواجهان قسوة الطبيعة والفقر، لكن شيئاً لا يحول دونهما ومشاهدة «سوبرمان» خلسة لحظة وصوله إلى صالة عرض القرية المتواضعة، ووسط مظاهر البؤس يُشيع الفيلم حالة من البهجة والتفاؤل والسخرية، وطوال الأحداث تُبهرك «كاريزما» الطفل الصغير الذي يتمتع بشخصية قوية وخيال خصب، وقدرة فائقة على الإيثار وحب الآخرين من حوله، بينما لا تستطيع أن تتجاهل نهاية الفيلم، التي يُهدد فيها لغم أرضي الطفل الأكبر، وعندما يهرول شقيقه الأصغر إلى القرية العراقية طلباً للنجدة يخذله أهلها، ويلجأ إلى الرب لإنقاذه، وعندما ينجو الطفل بأعجوبة «درامية» يتعانق «الشقيقان»، وتسقط «أسطورة البطل الخارق»، وتتجلى رسالة الفيلم على لسان الطفل الأصغر: «أريدك أنت وحدك... وليذهب «سوبرمان» إلى الجحيم»!قدم المخرج كرزان قادر فيلمه بأسلوب عاطفي لا يخلو من العذوبة والشجن، ولم يلجأ إلى ابتزاز العواطف أو تبني «الخطاب السياسي» المباشر؛ فالماضي عنده ذكرى أليمة لكن ينبغي تجاوزها، والانطلاق بعدها إلى المستقبل «المجهول»، ولأن المخرج يُقدم رحلة طفلين في عالم مضطرب فإنه لا يتخلى عن الروح الطفولية البريئة والبساطة الأخاذة، التي تتحول في بعض المشاهد إلى تبسيط مُخل، لكن الفيلم يلتزم بالخط الإنساني الذي اختاره منذ البداية، ولا يستخدم «السياسة» بالشكل المجاني المعتاد، ويحالف التوفيق المخرج في اختياره للطفلين، وتتجلى براعته الفائقة في توظيف عفويتهما، رغم وقوعه في فخ «الإفيهات» الحركية المستهلكة، كالصفعات التي انهالت على الطفل الأصغر من الجميع، ولا يمكن القول مُطلقاً إنها ذات صلة بالكوميديا؛ فقد اتسمت بقسوة غير مبررة، وتناقضت مع الحس الإنساني العذب والساخر الذي ميز «بيكاس»، ودفع الدموع إلى التقافز من عيني كل من ابتسمت له الأقدار وشاهده، تأثراً بأحداثه وتعاطفاً مع مأساة بطليه، وإعجاباً برؤيته التي لم تخل من رسالة تعرف طريقها إلى السياسة ولكنها لم تغرق في دهاليزها!