من الذاكرة: «الطويفريَّة»
كان ذلك اليوم حزيناً وكئيباً ومكفهراً ،مثل هذا اليوم، وكان نعش الحاج أمين الحسيني ،أسأل الله له الرحمة الواسعة، ممدداً في شارع قريب من مستشفى البربير في بيروت الغربية ومحاطاً بعدد قليل جداً من جنود جيش التحرير الفلسطيني.. كانت فرقة موسيقية فلسطينية تصدح أنغاماً حزينة تقطَّعُ نياط القلب وكانت أصوات المدافع المختلطة بأزيز الرصاص تزيد الأجواء ذعراً ووحشية.كانت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976 في ذروتها وكانت الشوارع خالية تماماً لا تمر بها إلا سيارات مسرعة إما أنها هاربة من الموت أو أنها ذاهبة نحوه.. كنت أقف مع ثلة من الصحافيين قال أحدهم بعد سماع دوي إنفجار شديد في منطقة قريبة :"ألم يجد الحاج أمين غير هذا اليوم ليرحل فيه عن هذه الدنيا".. ولأن لا أحد ردَّ عليه ولا استجاب له إستطرد قائلاً :"إن هذا هو قدر الفلسطينيين منذ أن أُحتلت بلادهم.. إن ظروفهم جميعاً طارئة وإن أيامهم كلها إستثنائية".
بقيت الفرقة الموسيقية تصدح أنغامها الحزينة وبقيت أصوات المدافع تتواصل وفجأة وصل أبو عمار بـ"عجقته" وحيويته ولم يكن معه من القيادة الفلسطينية إلا عدداً قليلاً من رموز الصف الثاني.. إتجه فوراً إلى حيث كان نعش الحاج أمين الحسيني ممداً وسط ساحة جانبية على الطرف الجنوبي من الشارع الموصل بين منطقة المزرعة في بيروت الغربية ومنطقة الأشرفية والديكوانة في بيروت الشرقية والذي كان يسميه الصحافيون شارع الموت والاختطاف على الهوية...وقف أبو عمار وقفة عسكرية أمام نعش الحاج أمين الحسيني بينما الفرقة الموسيقية تواصل ألحانها الحزينة وهدير المدافع يتعالى وأدى التحية ثم هوى على النعش وقبله بحنو وخشوع.. ثم قبله وهو يمسح دمعة تغلبت على تماسكه وانسابت على خده الأيسر. حملت ثلة قليلة من جنود جيش التحرير الفلسطيني النعش وساروا به نحو مقبرة الشهداء في منطقة "شاتيلا" وسار خلفه أبو عمار ومعه عدد قليل لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة وكان الرئيس الفلسطيني يبدو غارقاً في هموم كثيرة بينما إشتد القصف المدفعي المنطلق من الجبال المطلة على بيروت من الناحية الشمالية الشرقية.. وصل الجميع حيث كان ضريح الراحل معداً سلفاً.. صدحت الفرقة الموسيقية النشيد الوطني الفلسطيني.. وأدخل الجثمان إلى البيت النهائي والأبدي.. وقرأ الحضور "الفاتحة" على عجل وغادر ياسر عرفات المكان بسرعة.عٌدْتُ إلى الصحيفة البيروتية التي كنت أعمل بها فلم أعرف من أين أبدأ الكتابة عن هذا الحدث.. وهيمنت على مخيلتي ذكريات قديمة.. فقد كان أهلي في بدايات عقد خمسينات القرن الماضي يسكنون بيت شعر على الضفة الشرقية من نهر الزرقاء فوق كتف يطل على عين ماء اسمها "الطويفريَّة" يعتبرها أهل المنطقة مقدسة ومياهها تشفي من الأمراض المستعصية لأن الرسول الكريم صلوات الله عليه شرب منها ،على حد زعمهم، ولأنه نزل كهفاً صغيراً يقع على بعد أمتار منها وهو في إحدى رحلاته ،السابقة لهبوط الوحي وبداية النبوة، بين مكة ودمشق الشام.كان الوقت في الهزيع الأخير من الليل وكان الظلام يخيم على المنطقة ونقيق الضفادع مع خرير المياه يشكلان "سينفونية" حزينة.. أفقت مذعوراً وخائفاً على نواح رجل يردد موالاً حزيناً.. أحسست أن والدي رحمه الله كان مستيقظاً فسألته بخوف :"ما هذا"؟! فقال أنه أحد صيادي السمك.. إنه أحد أشقائنا المهاجرين.. إنه يبكي على فلسطين التي أخذها اليهود...ومضت الأيام وانتهت المرحلة البيروتية وفي لقاء مع الرئيس الفلسطيني بعد استشهاد خليل الوزير (أبو جهاد) في تونس سألته :"مما تخاف يا أبا عمار" فصمت قليلاً وهو يسند خدَّه على أطراف أصابع يده اليمنى ثم قال :"إنني أخاف أن أغادر هذه الدنيا دون أن احقق لشعبي شيئاً كما غادر الحاج أمين الحسيني"!!.