من الذاكرة: زناخة
اثنان على طرفي نقيض، الأول دقيق ومنظم ومرتب ودمه خفيف، يتابع شؤون عائلته ولا يأكل إلا من تعبه وعرق جبينه، يختلف عن معظم رجال القرية كلهم في أنه لا يحب الاختلاط مع الآخرين وأنه يختار أصدقاءه بدقة ويكتفي في العادة بالانفتاح على عائلة واحدة، وهو حسن الهندام زاده غير زاد الآخرين و"حاكورته" غير حوايكرهم وقطيع ماعزه غير قطعانهم و"فدَّانه" غير "عمَّالاتهم" وأفدنتهم وبيدره غير بيادرهم وقهوته السادة غير قهوتهم وربابته غير رباباتهم وعود حراثه غير عيدان حراثهم، و"جرَّته" على الربابة لا تشبهها إلا "جرَّة" الظلماوي شاعر عبد العزيز بن رشيد.أما الثاني ففوضوي، و"ثقيل نحيَّة" و"أنِدْبوري" لا يملك من زينة الحياة الدنيا إلا نحو نصف دزينة من الأولاد الذكور يعاملهم بقسوة ويتعاملون معه بخنوع وليس له من السائمة والحلال سوى بهيمة دبراء مقطوعة الأذن وبقرة زعراء بلا ذيل، إذا أكل لا يشْبع، والضيوف لا يراهم إلا في منازل الآخرين، من صفاته الحسنة أنه لا يغيب عن "هوشة" وأنه إذا ضرب أوجع، لا عمل لديه سوى التنقل من بيت إلى بيت آخر ومن تعليلة إلى تعليلة أخرى، لم يعمل في حياته أبداً لا في الحراثة ولا الحصاد ولا الدراسة، يُتقن بعض فنون الحداء لكنه إذا عزف على الربابة لا يطرب حتى نفسه ولا يثير إعجاب حتى المرابعية، إنه "فَنْكَري" شعاره "إعطنا خبزنا كفاف يومنا" ولا يدخل الهم إلى صدره حتى إذا نام أطفاله على الطُّوَّى واستفَّتْ امرأته المسكينة الرغام.
ذات يوم من أيام الربيع، وأيام الربيع في هذه المنطقة لا أحلى ولا أجمل، كان الأول يتفيأ ظلال بيت شعر جميل ،هو أجمل بيوت الشعر في هذه المنطقة، وكانت امرأته، المشهورة هي وأخواتها بجودة "العَوْس" ونظافة الطعام وبأن الخير يسير في ركابهن حيث حللن، قد فرغت تواً من خضِّ "قرقاعة" اللبن ووضع نحو رطلين من الزبدة البيضاء، التي تشبه "البوظة" الخارجة تواً من ثلاجة شديدة التبريد، في "جرة" قديمة كانت إحدى نحو ست جرار أثرية عثر عليها في قبو في "حاكورة" داره المبنية بالحجر والطين والمحاطة بسور يرتفع لنحو ثلاثة أمتار، بوابته مقوسة وله باب خشبي عريض تتوسطه "خَوْخَةٌ" يمكن إغلاقها بإحكام شديد وبحيث عندما يغلقها يصبح هو وأولاده في عالم آخر غير عالم القرية، أمضى نحو ساعتين في إعداد القهوة السادة، وقهوته تختلف عن قهوة الآخرين من أبناء هذه القرية، ودلاله دائماً مشرئبة الأعناق لا يسمح للنار إلا بملامستها ملامسة و"محماسته" سميكة لا يقحمها إلا جمراً خالصاً لا دخان فيه وهو يحرص دائماً قبل أن يضع القهوة في "المهباج" ،بعد تحميصها، على تبريدها في "مَبْردة" من خشب البلوط من صنعه هو، كانت رائحة القهوة التي من عادته أن يحمصها على مهل وعلى نار هادئة زكية تجلب له دائماً الفضوليين من الرجال وبخاصة صاحبنا هذا "ثقيل النحيَّة" الذي يستمتع في استفزاز هذا الرجل المنظم والمرتب والأنيق بالذات. قال لزوجته ،"المعدَّلة" الذائعة الصيت هي وشقيقاتها في طيب "العَوْس" ونظافة الطبخ: (إذا كنت قد انتهيت من خضِّ "قرقاعة" اللبن فسارعي في إعداد إفطار لي، قبل أن تداهمنا "الديبان وعُكف النيبان" وقبل أن يشم رائحة قهوتنا "أبو بطن"، الله لا يشبعه، ما أثقل نحيته، أسرعي لقد رأيته ينحدر من بياضة "الوسيِّة" قبل نحو ساعة).وبسرعة كان أمامه صحن في وسطه أربع بيضات تعوم أمحاحهن الصفراء في سمن بلدي عسلي اللون، مثل "عين الديك"، وإلى جانبه صحن "قَطيعٍ" مخضب بخيوط ذهبية من السمن ذاته وإلى جانب الصحنين "ثفال" يطوي جناحيه على أرغفة شراك ساخنة من قمح كان قد زرعه بيديه وحصده ودرسه بيديه وحمله إلى طاحونة "عدوان" وعاد به طحيناً رائحته أشهى من رائحة المسك، فرك يديه واحدة بأخرى وبعد أن نظر من "فاهِجْ" رواق بيت الشعر ليتأكد من أن "أبو خُصوم" لا يزال بعيداً مدَّ يده اليمنى إلى "ثفال" الخبز وتناول رغيفاً بلون القمر واستدارته وقبل أن يقول باسم الله، وإذا بـ"أبو خصوم" هذا يداهمه فجاة من الجهة الأخرى.تنحنح "أبو خُصوم" وقبل أن يقول له تفضل، "إفْلح" كان قد اتخذ موقعاً أمام صحن البيض المقلي و"ثفال" الخبز ومدَّ يده وتناول أحد الأرغفة الساخنة وهو يردد: "يا سبحان الله يالْقسمة والنصيب"، وقسم الرغيف إلى نصفين وهوى بنصف، كنسر معمر يهوي على حمامة، على الأربع بيضات وخلال ثوان كان كل شيء بين شدقيه تحت أضراس قوية جسورة، ثم وبلمح البصر كان النصف الآخر فوق صحن "القطيع".تابع الرجل المنظم الأنيق حركات "أبو خصوم" المسرحية بقهر وغضب شديدين وقبل أن يرفع هذا الأخير نحو فمه بكل ما في صحن "القطيع"، كما فعل بصحن البيض، مد الأول يده بعصبية وضيق خلق إلى الصحن الفارغ فتناوله ورماه بعيداً وهو يردد: "ما في خجل ولا حياء، هاضَا ما هو قِسْمة ونصيب، هاضا لعانة والدين وزناخة وثقالة دم"!