... أطباء تحت الطلب!
أمر مؤلم ما نلاحظه في الكويت من انزلاق مهنة الطب إلى منحى تجاري جنوني، جعل أطباء على مستوى عالٍ من التأهيل والسمعة صوراً متداولة على الصفحات الإعلانية في الصحف والمجلات، إضافة إلى اللوحات الإعلانية في الشوارع والمجمعات التجارية، في شكل مستفز يثير الاستهجان، وينتهك هذه المهنة الإنسانية الرفيعة، حيث أضحى عدد من الأطباء يعرضون صورهم في الجرائد، وإلى جانبهم أرقام هواتف للاتصال بهم على مدى 24 ساعة لتقديم استشارات طبية مقابل "كم مئة فلس" للمكالمة الواحدة، بما يشبه حالة التاكسي تحت الطلب!التداول التجاري في مهنة الطب وطب الأسنان في الكويت أصبح ظاهرة متفشية، رغم أن متوسط راتب الطبيب في الحكومة يتجاوز خمسة آلاف دينار مع بدل السكن وبدلات الخفارة وغيرها، وهو ما يعادل دخلاً سنوياً يقدر بنصف مليون دولار أميركي، وهي نسبة دخل محترمة جداً مقارنة بدخل الأطباء حول العالم، وتوفر للطبيب الكويتي حياة كريمة جداً وآمنة مقارنة مع تكاليف المعيشة في الكويت وحتى مع الولايات المتحدة وكندا، لاسيما مع غياب أي نظم ضريبية على الدخل عندنا، ومع ذلك فإن طبيعة النهم الاستهلاكي في المجتمع الكويتي قد تشكل تأثيراً على سلوك عامة الناس الذين يجب ألا ينجرف معهم الأطباء الذين يمثلون صفوة المجتمع علماً وتأهيلاً، وما يعكسه ذلك على الطبيب من خلق يجعله قدوة لارتباطه بمعاني الحياة والفناء التي يرقبها طوال فترة أدائه لعمله مع أقرانه البشر.
من المعروف أن معظم أطبائنا حصلوا على "البورد" من جامعات بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وألمانيا، فهل شاهد أحد منهم في تلك الدول أطباء يضعون صورهم للدعاية لعياداتهم الخاصة في الصحف والشوارع لجلب الزبائن؟! رغم أن مفهوم العيادة الخاصة في معظم هذه الدول غير موجود. بالطبع لا يشاهدون إعلانات للأطباء هناك، ففي تلك الدول دليل خاص للأطباء ونشرات خاصة تبعدهم عن الوسائل التجارية الاعتيادية التي تنتهك هذه المهنة الإنسانية العظيمة وتحول حياة البشر وأمراضهم إلى وسائل دخل شبيهة بالبضائع في البقالات والأسواق.الشكل التجاري المتنامي لمهنة الطب في بلادنا يعمق يومياً من مشكلة فقدان الثقة في العلاج في الديرة ويزيد الطلب الكبير على العلاج في الخارج بسبب شك المريض المتنامي في نوايا الطبيب في تحقيق الأرباح على حسابه بسبب زيادة سلوك الطبيب التسويقي لنفسه في جميع وسائل التسويق التجاري للسلع المختلفة، وزيادة العيادات وارتفاع رسومها بشكل منفلت.أعلم أن "البزنس" في العيادات الخاصة والمستشفيات الأهلية يحقق أرباحاً تقدر بملايين الدنانير بسبب تردي الخدمات الصحية الحكومية، والأطباء والمستثمرون في هذه الخدمات سيقاتلون ويستخدمون نفوذهم بشراسة لبقاء الحال على ما هي عليه، ولكن هل يستسلم السواد الأعظم من الأطباء لما يحدث من انتهاك وتخريب لهذه المهنة الإنسانية المجتمعية الرفيعة؟ أم أنهم سيتداعون لوضع نظام يقنن فتح العيادات الخاصة والإعلانات الطبية والتوجه إلى نظم المراكز الصحية الأهلية المتكاملة برسوم مقننة بدلاً عن العيادات الفردية وتخصيص مواقع لها في المناطق السكنية بدلاً من مجاورة عياداتهم للمطاعم والمحلات في المجمعات والبنايات التجارية، إضافة إلى حسم قضية الجمع بين الوظيفة الحكومية والعيادة الخاصة؟