كان يجب في الظاهر أن تكون الرياح مؤاتية للرئيس المصري محمد مرسي.

Ad

بعد انتهاء عهد الملوك والحكام المستبدين، كان مرسي أول رئيس يُنتخب ديمقراطياً في مصر، فحقق انتصاراً بهامش ضيق جداً خلال عملية الاقتراع السنة الماضية، حاصداً نحو 52% من الأصوات خلال الجولة الثانية، لكن انتصاره لم يرضِ شريحة كبيرة من الشعب المصري، وشعر الشبان والشابات الذين أسقطوا الحكم المستبد السابق في "ميدان التحرير" أنهم استُبعدوا، وأكدوا أن ثورتهم خُطفت.

بعد مرور سنة مليئة بالاضطرابات اليوم دعا منتقدو مرسي إلى إضراب وطني في 30 يونيو هدفه الإطاحة بمرسي، فبعد سقوط الفرعون الأخير، كما نعتوا حسني مبارك، لم يعد الاستقرار الاجتماعي إلى مصر.

لا يُعتبر الائتلاف الليبرالي-العلماني، الذي يسعى إلى توجيه هذه الضربة القوية لـ"الإخوان المسلمين"، بعيداً عن اللوم، فقد تقاتل قادته، الذين يُعرفون بـ"جبهة الإنقاذ الوطني"، في ما بينهم، وخلال الانتخابات الرئاسية السنة الماضية، أخفقوا في التوحد ودعم مرشح واحد. لذلك أرغموا الشعب على الاختيار بين النظام القديم ومرسي، ممثل جماعة "الإخوان المسلمين".

برز محمد مرسي، وهو رجل عادي لا لون له ولا جاذب، من تاريخ جماعة "الإخوان المسلمين" وثقافتها، ووُلد في عائلة فقيرة من الفلاحين عام 1951، لكنه تابع علومه وحصل على شهادة جامعية في الهندسة، فكانت هذه هبة نظام التعليم المجاني الذي اعتمدته حركة "الضباط الأحرار" في مصر في خمسينيات القرن الماضي. وعندما أُتيحت له الفرصة سافر إلى الولايات المتحدة، حيث حصل على شهادة دكتوراه من جامعة جنوب كاليفورنيا، لكنه لم يسرع في العودة إلى مصر، بل درّس فترة من الوقت في جامعة ولاية كاليفورنيا في نورث ريدج.

فترة انتظار

لم تكن مسيرته فريدة، فتحفل صفوف جماعة "الإخوان المسلمين" بالمهندسين وعلماء الفيزياء، فضلاً عن أن الإقامة الطويلة في الخارج ليست أمراً استثنائياً. نتيجة القمع الذي تعرضت له هذه الجماعة خلال عهد جمال عبدالناصر المستبد العلماني عام 1954، اضطر أعضاؤها إلى البقاء في الظل أو في المنفى.

كانت جماعة "الإخوان المسلمين" مستعدة للانتظار، فلم ترد أن تشهد تكراراً لعمليات الرعب والسجن السياسي التي تعرضت لها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وعلاوة على ذلك، رغبت في تفادي أي مواجهة مع الجيش، فلم يفقد مفكروها الأمل بإقامة تحالف مع الضباط، ويمكنك أن تقول ما يحلو لك عن "الإخوان المسلمين"، إلا أنهم لم يكونوا بالتأكيد مجموعة ثورية.

لكن جماعة "الإخوان المسلمين" برعت في التآمر وتفادي العواصف الكبيرة، فانتظرت انقضاء تظاهرات "ميدان التحرير"، فتُعتبر تلك الأيام الثمانية عشر الساحرة عام 2011، تلك الأيام التي أسرت المشاهدين في دول العالم المختلف وأعطت المصريين قدراً من الحرية السياسية والكرامة، من صنع الليبراليين العلمانيين، والمسيحيين الأقباط، والشبان، والشابات الجريئات اللواتي تحدين الأعراف والتقاليد ونزلن إلى ذلك الميدان العام.

رغم ذلك، تتمتع جماعة "الإخوان المسلمين" بأكثر من ثمانية عقود من الخبرة السياسية، وكان الحكم المستبد العسكري قد فكك الليبراليين الضعفاء، مما جعلهم غير مستعدين لخوض منافسة للفوز بالنظام الجديد، وعلى غرار الليبراليين في أماكن أخرى قاسية وغير ليبرالية من العالم، مثّل هؤلاء بالتأكيد روح بلدهم.

تعرّض الليبراليون لهزيمة قاسية على يد "الإخوان المسلمين" والسلفيين المتشددين خلال الانتخابات البرلمانية الأولى، إلا أن القضاء، الذي يُعتبر معقل النظام القديم، تدخل وحل البرلمان، لكن الديمقراطيين لم يقروا بالواقع: صحيح أن مصر تملك نخبة مثقفة وراقية تشكّل معسكر الاعتدال، وأن أوروبا ليست بعيدة، إلا أنها بلد فقير يعاني نسبة مرتفعة من الأميين وشعباً تركه نظام مبارك المستبد فريسة للظلمة وحكم الخرافات.

مع هذه الفرصة المتاحة، حاولت جماعة "الإخوان المسلمين" السير بحذر، وأقرت بالتفويض المحدود الذي حققته مع انتخاب مرسي، لكن الحكومة التي عانت جنون الريبة وكانت تتوق إلى السلطة لم تعرب عن ضبط النفس، إذ تعيش جماعة "الإخوان المسلمين" وفق منطق الأغلبية، وما مرسي إلا واجهة تخفي وراءها مكتباً سياسياً ومرشداً أعلى.

بلد منقسم

نظرت جماعة "الإخوان المسلمين" باحتقار إلى الليبراليين وبخوف إلى الجيش، كذلك سعت إلى تحجيم القضاء وإضفاء صيغة تشريعية على حكمهم، ولكن عندما أصدر مرسي "إعلاناً دستوريّاً" غريباً في شهر نوفمبر عام 2012 وضع بموجبه مراسيمه فوق المراجعة القضائية، نزل خصومه العلمانيون إلى الشارع في مظاهرات حاشدة. فتراجع ثم سعى إلى تمرير مسودة دستور عبر مجلس يسيطر عليه الإسلاميون، فحظي بموافقة الأغلبية، فتاق المصريون إلى الخروج من هذه الحالة من الفوضى وغياب القانون.

تعاني مصر انقسامات كبيرة؛ صحيح أن الإخوان المسلمين تمتعوا بشرعية منحتهم إياها الانتخابات، إلا أن الملايين يعارضون حكمها الباهت بعناد؛ لذلك عندما أعلن مرسي حظر التجول في شهر ديسمبر الماضي في مدن بور سعيد، والسويس، والإسماعيلية، نزل الناس إلى الشوارع للغناء والرقص ولعب كرة القدم ليلاً.

نتيجة لذلك، صار حكم هذا البلد مستحيلاً: لم يرد أحد (باستثناء بعض الرجعيين المتشددين) عودة النظام السابق، وبدأ المصريون يتقبلون الصعوبات التي سيواجهونها بغية التوصل إلى توافق وطني ناجح، لكن الازدراء الذي يواجهه مرسي من منتقديه العلمانيين راسخ رسوخ تأكيد الكثير من دعاة "الإخوان المسلمين" أن المناداة بالإطاحة به من السلطة أمر غير مقبول، لا بل خطيئة.

تُعتبر التظاهرات رمية حظ يائسة، فهي لن تمنح المصريين الخلاص، لأن مرسي لن يتنحى، وتكثر التوقعات عن أن خصومه يأملون تدخل الجيش للإطاحة بـ"الإخوان المسلمين"، ولا شك أن مبارك، الذي يؤتى به إلى محاكمته على حمالة، يفكر في مدى حكمة الطريقة التي حكم بها وصوابها.

فؤاد عجمي Fouad ajami

* باحث بارز في "معهد هوفر" التابع لجامعة ستانفورد ومؤلف كتاب The Syrian Rebellion (الثورة السورية).