أزمة تجديد الفكر الديني
-1-نتابع في هذا المقال الحديث عن ضرورة الاستمرار في دعم مخططات تجديد الفكر الديني الذي بدأه جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في القرن السابع عشر الميلادي، وتابعه في القرن العشرين كل من الفيلسوف والشاعر الباكستاني محمد إقبال والمفكر والأكاديمي الكويتي الراحل أحمد البغدادي وكوكبة من المفكرين المصريين والشوام والعراقيين.
-2-فبرهان غليون المفكر السوري-الفرنسي والأكاديمي والناشط السياسي في الثورة السورية القائمة الآن يؤكد لنا أنه مهما كانت اتجاهات ومصادر فكرة تجديد الفكر الديني، فإن المقاربات والتأويلات المقترحة تدور حول اعتقاد راسخ بأن هناك قطيعة عميقة بين الفكر الإسلامي والحداثة.وإذا صحت مثل هذه الأطروحة، فإن المجتمعات الإسلامية لن تستطيع الإفلات من المصير التراجيدي في الاختيار بين الحداثة المُستَلِبَة التي ترتكز على رفض الذات، وهوية فاقدة لقيمتها تقود إلى الاستبعاد والتهميش.وفي هذه الحالة سيجد المسلمون أنفسهم محكومين، مهما فعلوا، بالفصام وعذاب الضمير.-3-ويطرح برهان غليون عدة أسئلة منها:- هل يشكل الإسلام بالفعل مزيجاً شمولياً، بحيث إن الاعتقاد الديني لا يكون صحيحاً ما لم يكن مرتبطاً أيضاً بالالتزام بأشكال خاصة من الفكر والسلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي النابعة منه بالضرورة والمؤكدة له؟- أم أن لدى الإسلام، على العكس، في بنيته العقائدية نفسها، إمكانية استيعاب المنطق العقلي الذي تتوقف على امتلاكه نجاعة أعمال الإنسان الدنيوية؟- كيف يمكن تفسير العجز التاريخي للمجتمعات العربية؟ وما دور معتقداتها الدينية في ذلك؟- هل الإسلام هو الذي يمنع المجتمعات الإسلامية من التقدم على درب الحداثة، أم أن الحداثة، على العكس، بالشكل الذي تم فيه إدخالها وتطبيقها في معظم البلاد الإسلامية، أي كحداثة آلية وتقنية لا إنسانية؟- ما الأسباب التي تمنع الإسلام من التجدد اليوم، إذا كان قد استطاع القيام بذلك فيما مضى؟-4- ومن الملاحظ أن الإجابة عن هذه الأسئلة التي تطرحها مختلف المقاربات الحالية للإسلام تكتسب أهمية كبيرة. فالأمر يتعلق هنا بتحديد دور الإسلام ومكانته في صوغ المستقبل الأخلاقي والفكري، وبالنتيجة التنظيم السياسي والاجتماعي، للمجتمعات المسلمة.بعكس الأفكار الشائعة اليوم، فالإسلام لم يبق جامداً طيلة خمسة عشر قرناً مضت، بل تعرض لتحولات عميقة، سواء كان ذلك على مستوى النظم العقائدية، أو على مستوى الممارسات التاريخية السياسية، والاقتصادية، والثقافية. كذلك، فإن التغيرات كانت عميقة فيما يخص الفكر والمجتمع الإسلامي وجغرافيته السياسية وأنماط تنظيمه وشروط تطوره وأنماط إلهامه.ولكن برهان غليون– كبقية بعض المفكرين العرب العقلانيين المعاصرين- يؤكد أنه رغم تأخر تجديد الفكر الديني الحضاري الواضح اليوم، فإن المجتمعات الإسلامية لا تعيش في فضاء مغلق، ولا خارج إطار زمانها، بل هي منغمسة تماماً في الحداثة، بإنجازاتها الإيجابية وآثارها السلبية معاً.-5-إن غياب التأسيس الفكري والأخلاقي لهذه الحداثة، التي غزت المجتمع العربي كما غزت غيره من المجتمعات، كان نتيجة هذا الانغماس الآلي وغير المفكر فيه في الحداثة، وقد أفرغ الحداثة من قيمها الإنسانية، وقلصها إلى مكتسب تكنولوجي على حساب الحريات الأخلاقية والمدنية والسياسية. وهكذا فقد تحولت الحداثة في كثير من البلدان العربية، إلى تحديث لأدوات اضطهاد الإنسان، في حين أن أصل شرعيتها كان تحريره.فقد فرضت الحداثة نفسها في الحقب الأولى في البلدان الإسلامية كنمط جديد من الاستهلاك المادي الذي يعني التفتح والازدهار، لكن سرعان ما انتهى بها الأمر إلى طريق مسدود.-6-ويؤكد برهان غليون أنه، في الوقت الذي كانت قدرة الدولة على تلبية الحاجات المادية التي ولدها المجتمع العالمي تنهار، كانت آمال الشعوب وافتتانها بنمط جديد للحياة والحرية والكرامة تتأكد بقوة.ومن هنا، تحولت الحداثة التقنية، والآلية، والمادية البحتة، إلى وسيلة تجوف البشر وتفرغ حياتهم من المعنى، وتدفعهم للحيرة والضياع.ولعل، ما نعيشه اليوم في بعض المجتمعات العربية خاصة في مصر، وليبيا، وتونس، وسورية، والعراق، لا يُعبِّر عن مأزق فكري ديني، بقدر ما يشير إلى مأزق الحداثة المتمثل بحداثة الآلة، والتقنية، والاستهلاك.حداثة بلا إنسان أو ضد الإنسان.فبقدر ما عجزت الحداثة عن تنمية وتشجيع الحريات الإنسانية، فقد وجدت نفسها بالضرورة غير قادرة أيضاً على استخدام التقنية وضبطها والسيطرة عليها. وبقدر ما حرمت الإنسان من الذاتية والشخصية، بقيت هي نفسها من دون هوية.ولا ينبغي للأزمة الراهنة التي أثارها تطرف وتشدد بعض الحركات الإسلامية الحديثة وعداؤها لقيم الحداثة أن يدفع إلى استنتاجات وتعميمات خاطئة لا أساس لها في الواقع.* كاتب أردني