قبل سنوات التقطت مقالة مؤثرة للناقد الانكليزي جوليان غوJolian Gough في جريدة الغارديان تحت العنوان التالي: "نعم إنها لوحة لكأس بلاستيكية»، مع العنوان الهامش التالي: «ربما لم تسمع باسم الفنان. إنها معلقة في غرفة نومي، على أن مكانها الحقيقي في المتحف الوطني». الناقد، وهو يقيم حالياً في برلين، يتحدث عن زيارته للندن، وأنه اطلع فيها على آلاف من اللوحات الفنية. ولكن اللوحة التي حركت كيانه بصورة أكبر كانت عبر نافذة قاعة عرض في شارع ألبير ماري. وكان ثمنها 5.500 جنيه استرليني. مستوى اللوحة الفني لم يترك له خياراً غير أن يشتريها على عجل:

Ad

«اللوحة التي  أذهلتني، وخلفتْ لدي انطباعاً حاداً، والتي لم أستطع احتمال تركها ورائي فاشتريتها كانت بعنوان "كأس بلاستيكية» للفنان ديفيد دينبيDavid Denby. الكأس البلاستيكية لوحة مستريحة، واثقة، غير حادة، غير مجهدة. ما الذي اختار الرسام، المنسي اليوم، والذي فاز بجائزة البورتريت الأكاديمية في عام 1979، أن يرسمه في عام 2001؟ لا شيء، وكل شيء، في آن واحد. لوحة الكأس البلاستيكية هي رسم كأس بلاستيكية ممتلئة ماء بمقدار ثلثيها- سائل شفاف لا قيمة له داخل كأس شفافة لا قيمة لها، تستقر على لوح من النشارة المضغوطة لا قيمة له هو الآخر. إنه بورتريه لشيء لا يكاد يكون ذا قيمة تُذكر. مع لوحة كأس بلاستيكية، استطاع دينبي ببراعة أن يتجنب تهمة أن لوحة الحياة الصامتة هي كليشيه بورجوازية، تنطوي على تصوير جميل لشيء جميل، ولقطة مطمئنة لتواصل العالم المنضبط بقوانينه. إنه أزاح العالم من الصورة. إنه غير معني بالعالم قدر عنايته بالضوء... دينبي فهم بأن العالم واحد، وأنك تملك أن ترى الكون في كأس بلاستيكية على لوح من الخشب.

«عمله يُقرن دون تعارض بأعمال الفن التمثيلية (التي تشير معنى خارجها) التي للألماني جيرهارد ريختر. ففي الشهر الذي اشتريت فيه عمل دينبي كان عمل ريختر (الشمعات الثلاث) قد بيع بسعر خمسة ملايين ونصف المليون دولار. إنه أكبر بقليل من عمل دينبي. كلا العملين رائع. على أني دفعت بعمل دينبي مبلغاً يعادل مبلغ سيارة سكودا مستعملة.  

«ولكن كيف بلغنا مرحلة كهذه، بحيث يكون فنان من أحسن فنانينا في انكلترا، وبعد 23 سنة من فوزه بجائزة البورتريه الأكاديمية، وبعد تطور بالغ العمق، مجهولاً؟! واحد من الأسباب أن عملية شراء اللوحات في بريطانيا في العقود الماضية قد توقفت أو كادت عن شراء اللوحات التي تعتمد أساليب التصوير التمثيلية (أي التي تعتمد تصوير شيء ما أو فكرة ما)، تماما كما توقفت مدارس الفن الأساسية عن تدريس التقنيات الأساسية والمهارات. ولقد كانت لهذه نتائج بالغة التناقض. إن الرعاية الرسمية قد أضعفت الإرادة، وقتلت التطلعات الطموحة. أنظر كيف ينمو الفن المفاهيمي البريطاني الجديد رخواً. ما فعله ساجي وسيروتا (أصحاب قاعات فن ما بعد حداثية مؤثرة في لندن) أمر مريع في قلب القوانين الفنية عبر أكثر من جيل، بحيث دفعا التيار الأساسي في الفن إلى ما تحت أرضي. لقد انتفعا من صفة التواضع فيه. كان فنانو هذا التيار متمسكين بالأساليب التمثيلية وتطويرها بفعل قناعة وحب...الخ”

أمر الفن لا يختلف عن أمر الشعر والأدب. فحركة الإعلام التي تتحرك وفق المصالح المادية طاغية السطوة وتدميرية. على أن هناك من يرعى الصوت الحقيقي ويمنحه فرصة أن يفلت من العجلة الساحقة ويحقق مكانه بصمت وسرية. في ثقافة العالم العربي لا يختلف الأمر كثيراً، باستثناء أن الصوت الحقيقي لدينا لا يملك فرص الغربي في الإفلات من هيمنة مافيا الإعلام الثقافي وبورصة السوق، وتحقيق المكانة التي يستحقها.