لم يكن بحاجة إلى بهرجة الإعلام
لم يكن هناك ما يبهج، ولا ما يبشر بالخير مشاهدة برنامج "تو الليل" لقناة الوطن، وهو يعرض صور متهمين محشورين في أقفاص "النظارة" بجرائم مرورية، لم تصدر بحق أي منهم أحكام قضائية بالإدانة، ولم يكن هناك، كذلك، أي مبرر لمشاهدة صور التوسل والتذلل والتزلف المحزنة لعدد من المتهمين، ينتظرون دورهم للمثول أمام المدير العام للمرور اللواء عبدالفتاح العلي، كي يرحمهم من الغرامة أو الإبعاد، ثم نلاحق بقية الحكاية بمشاهد تلفزيونية تبعث على التقزز، حين يقف البشر بطوابير ممتدة، ينتظرون القرار النهائي من اللواء في مخالفاتهم، ويصبح اللواء عبدالفتاح هو سلطة الاتهام والقاضي في الوقت ذاته! فطالما ارتكب أي من هؤلاء مخالفة ما يتعين أن يسلك القانون مجراه، وفق الإجراءات التي يحددها القانون، ولا يصح أن تتدخل "شخصية" المسؤول أياً كان موقعه في أعمال العقوبة أو الإعفاء منها، ففي دولة المؤسسات لا توجد أسماء أفراد متضخمة بأكثر من المناصب التي يشغلونها، ولا يصح أن تكترث الدولة لـ"صفات" ومواصفات "هذا أو ذاك المسؤول، فهناك أطر وقواعد إجرائية يتعين على المسؤول الذي يشغل المنصب أن يتبعها، كما يفترض أن تلك القواعد ملزمة للسلطة في اختيارها للمسؤول وتحديد مهامه وسلطاته التقديرية، التي بدورها يجب أن تكون محددة سلفاً ومعروفة للكافة، حسب الإجراء القانوني المفروض، وبغير ذلك فلا توجد دولة قانون ولا دولة مؤسسات، وإنما تجمعات عشائرية طفيلية ومحسوبيات تحل مكان اليقين والاطمئنان القانونيين.
يكثر الحديث اليوم عن شخصية عبدالفتاح العلي ودوره لإصلاح ما يمكن إصلاحه من كارثة المرور في هذه الدولة التائهة بين حكم القانون وفوضى مزاج وأهواء السلطة، ويبدو، حتى الآن أن مدير المرور يحمل في داخله روحاً جادة لرتق الكثير من الثقوب التي تملأ الثوب المروري، فالمرور ووزارة الداخلية كلها يكونان المرآة الصادقة لوضع الدولة على سلم حكم القانون، وضمان حريات الأفراد وحقوقهم، وتعهد اللواء عبدالفتاح باستئصال "ورم الواسطة" من الجسد المروري يفرض الاحترام لشخصه متى وفى بوعده، وحتى الآن تبدو أن بصمة اللواء في تعديل الكثير من الاعوجاج بإدارة المرور ظاهرة، وهو على ذلك ليس بحاجة إلى أي نوع من البهرجة الإعلامية، ولا إظهار مدى جديته في إعمال القانون، فالناس ستشهد له أو "عليه" يوماً ما، وما يهم الآن أن يخلق في الدولة واقعاً اسمه "مؤسسة" القانون، التي هي كفكرة تفرض اختيار أشخاصها المناسبين، وتبعد عن دائرتها المتزلفين والوصوليين، الذين تعج بهم معظم هيئات الدولة، فالمطلوب ألا يرتبط أي تقدم أو إنجاز باسم فرد، أو موظف عام قام بواجبه، وإنما بالمؤسسة المعنية، فالأفراد يبقون لفترة في مناصبهم ثم يزولون، والمهم أن يظل وجود المؤسسة القانونية العادلة باقياً، دون النظر إلى أشخاص من يشغلها، وستذكر الناس في نهاية المطاف، حتماً، دور ذلك المسؤول الذي شرف عمله، ورفع من شأن هذه أو تلك المؤسسة، وتركها لتستمر من بعده وفق حكم القانون والعدل دون ظلم للناس أو تهاون بأمنهم، في آن واحد.